"فافرح بأقصى ما استطعت من الهدوء"
كتب محمود درويش:
"فافرح بأقصى ما استطعت من الهدوء لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك من فرط الزحام وأجلك"
أفكر في الفرح، مالفرح ومن نحن في الفرح؟
ربما لا حاجة لوصف الفرح فهو شعور بالسعادة والبهجة، نعرفه كشعور غالبا ما يكون ردة فعل لحدث ما ذو قيمة خاصة لدى الفرد..
لكني أحب أن أفكر في من نكون أثناء الفرح؟ أو بمعنى أدق ما نكون عليه في الفرح..
ماذا يفعل الفرح بنا أثناء وجوده فينا؟
في الفرح، نحن أكثر لطفاً وصبراً، كأن تبادر لتحتضن شخصاً ما كنت تشعر دوما بأنه شخص بغيض، ولا تكتفي بذلك، بل تدعوه لتناول العشاء معك وتستمع للمرة الأولى لحديثه كاملاً دون أن تفكر في طريقة للإنسحاب..
في الفرح، نحن أكثر قدرة على الحب، في فرحك ترغب باحتضان العالم، كأن تخدم شخص لا تعرفه، كأن تصافح عدوك لأول مرة وتخبره كم هو جميل في هذا المساء..
في الفرح، نحن أكثر قدرة على إبداء التقدير والامتنان، كأن تحيي عمال النظافة في آخر الطريق وترسل لهم قبلاتك، كأن تقف كالراهبات بكل خشوع، أمام القمر وتمتن للسماء وكأنك تراها لأول مرة..
في الفرح نحن أكثر قدرة على الصفح والتقبل، كأن تعتز بنفسك رغم إخفاقك في بلوغ أمر ما، وكأن تشكر الله على حادثة كانت هي أعظم معاناة لك بالأمس..
في الفرح لا نخشى المخاطرة، بتلقائية الطفولة تراقص مديرك، أو تعتلى خشبة المسرح لتلقي قصيدة لست متأكد من قدرتك على استرجاعها، أو تعترف بكل رحابة صدر عن حبك لأحدهم، أو تقرأ بكل شجاعة كتاب أشد من يخالفك في كل شيء..
في الفرح نحن أكثر مرونة، لا بأس بإنقطاع الكهرباء وشبكة الاتصال، سنرقص تحت أضواء النجوم في الفناء الخارجي، ثم سنشعل شمعة لنقرأ ديوان شعر لفاروق جويدة..
في الفرح نحن أكثر قدرة على النظر في أحزاننا دون جزع، بل ننظر لها في ضوء الأمل!
كأن نروي ما كسرنا بدمعة واحدة فقط و ابتسامة، ابتسامة النصر، نصر "دوام الحال من المحال" ها نحن فرحون!
في الفرح نحن أكثر قدرة على التفاوض، لا بأس لك ما تريد ولنا نحن أن نفرح الآن دون الحاجة للكثير..
في الفرح نحن أكثر قدرة على الثقة "أهلا بك بيننا نحن سعداء بوجودك، لا نعرفك لكننا نتطلع لمعرفتك"
محمود درويش:
"الآن، في المنفى ... نعم في البيتِ،
في الستّينَ من عُمْرٍ سريعٍ
يُوقدون الشَّمعَ لك
فافرح، بأقصى ما استطعتَ من الهدوء،
لأنَّ موتاً طائشاً ضلَّ الطريق إليك
من فرط الزحام وأجّلك"
هو يكتب عمن كان في منفاه في بيته، يحتفل برفقة الأصدقاء بمناسبة بلوغ الستين، ويذكر درويش ان عليه أن يفرح بهدوء لأن الموت الطائش ضل الطريق إليه من فرط الزحام.. زحام الأحياء الذين سيلقون الموت قبله..
أما نحن في المنفى -في بيوتنا- بالعزل منذ مدة، نحاول أن نتجنب الموت الذي يحلق في الخارج، متمثلا بوباء كورونا الذي تسبب بموت الكثيرين في العالم اليوم، ربما علينا أن نفرح نحن أيضا بأقصى ما استطعنا من الهدوء، أن نخلق ذلك القدر من الفرح الذي يجعل منا أشخاصاً أكثر لطفاً وصبراً وصفحاً وامتناناً ومرونة، ذلك الفرح الهادئ الذي يجعلنا أقل حدة وأكثر تواضعاً وبراءة وإنفتاحاً على الحياة..
هناك دوما شيء ما في حياتنا -في الوجود- ربما فكرة أو نشاط ما أو قيمة أو أحلام، تجعلنا ننعم بهذا الفرح..
فلنفرح بهدوء وباستمرار، ما استطعنا في هذا الوجود..