تأملات في أثر الحب


أفكر في أثر الحب على الإنسان، ماذا يفعل الحب بالإنسان حين يحل به وحين يغيب؟ 

أشارك هنا تأملاتي في أثر الحب، خبرات الناس في الحب التي شهدت عليها  حولي وفي عيادتي ووجدت نظيرها في الشعر والأدب و في نفسي، لن اتخذ تعريفًا للحب هُنا، ولن اقدم حتى تفسيرا له، الحب اكثر الخبرات الانسانية ذاتية و أود أن أبقي على هذه الذاتية وأن أمارس ذاتيتي أيضا في تأملاتي حول الحب ولأن الحديث عن الحب هو فعل حب، سأتحدث عن الحب أي العشق ومرة عن الحب العام للحياة وللبشر والخالق، واتفق مع من يرى أن هذه ليست أنواعا مختلفة تماما للحب بل هي تمظهرات متعددة لخبرة الحب الواحدة.

 ما إن يحل الحب حتى أكف عن الميتافيزيقا وانخرط في الحياة:

 

"دع كل قلبٍ لم يمازجه الهوى أحواه ديرٌ أم حواه مسجدُ

وبدفتر العشاق من خط اسمهُ لم يعنِْه خلدٌ ونارٌ توقد" عمر الخيام

 

يشير عمر الخيام في رباعياته لظاهرة الحب وما يأتي معها من انغماس في اللحظة الحالية حيث يكف المُحب عن الميتافيزيقا، المُحب يحيا هُنا والآن ولا تعنيه الميتافيزيقا في شيء، ما قبل الحياة وما بعدها، لأن التفكير فيما هو خارج الحياة أو ورائها ليست إحدى سمات هذه التجربة! ربما هي سمة الحزن والاغتراب والصدمة، أما تجربة الحب فتدفع الإنسان للتدفق في الحياة والاتصال بها.

في الحب ينعم الإنسان بالحياة فلا شيء يدفعه للتفكير خارجها وإن راوده شيء من الميتافيزيقا سيكون تساؤلا عابرا عن السر الإلهي للحب، وسر الأقدار التي مهدت له هذا الحب، وهو يطرح السؤال بغرض التعبير عن رهبة الحب، وسرعان ما ينغمس في اللحظة فهو سؤال لا يتضمن انفصالًا عن اللحظة بل هو جزء من التوغل فيها. 

الحب تجربة كثيفة تأتي كسيل يغمر الإنسان، وهذه الكثافة تستدعي الانغماس والانشغال بها، لذلك قد نجد المحبين في بداية الحب غير منتجين في مجالات الحياة التي تهمهم، يعللون ذلك ربما بأن  تلك الدوافع المحمومة وراء الإنتاج في السابق (قبل حدث الحب) كان جوهرها غياب الحب، وكأنّ الإنسان دون الحب يصيبه هوس بالحياة، بالإنتاج بالامتلاك بالصخب بما لا يعرفه، يترافق مع هذا الهوس رعب غامض من فوات الأوان، حتى يحل به الحب فينتظم إيقاعه مع الحياة ويعيد صياغتها بعد مدة من الحب ويعيد تشكيل مساراته دون النشاز السابق.

عن كثافة الحضور في اللحظة أثناء الحب، يصف المُحب بدهشة تلك الساعات التي يقضيها مع محبوبته، لماذا للزمن وتيرة مختلفة معها؟ ما إن نكون معًا حتى ننسى كل ما هو خارج هذا المكان وهذا الزمان، إننا ننسى حتى فكرة الزمن نفسها والعالم الخارجي، لا شيء سوى جمال هذه اللحظة الطوفانية بالحب وجمال ما يحيط بنا معًا.

تجربة الحب تُكثف حواسه، تشعل ذائقته الجمالية بكل الموجودات، قديمًا قيل لأعرابي: ما بلغ من حبك لفلانة؟ فقال: "والله إني لأرى الشمس على حائطها أحسن منها على حيطان جيرانها" الحب يُكثف الذائقة الجمالية، فكل شيء معتاد يصطبغ بالجمال في حضرة الحب، حتى نور الشمس العادي على الجدار الذي لا يختلف عن غيره يصبح كشعاع على البلور!

يكتب هرمان هسة: "بحبي لها، استطعت استعادة الشيء الذي أفتقده منذ سنوات، ألا وهو لهفة الارتياح الطفولي بأشياء الطبيعة والاحساس بالانتماء والاقتراب من الخليقة، وهذا الإحساس الذي لا يمكن إيجاده إلا في الحب الحقيقي والفهم الدقيق لأشياء الطبيعة"


 

ما إن يحل الحب حتى أشعر بمعنى لوجودي:

 

"أول دفتر المعاني الهوى

‏ وإنه بيت قصيد الشباب

‏يا جاهلا معنى الهوى إنما

‏ معنى الحياة الحب والانجذاب" عمر الخيام

 

تضخ تجربة الحب إحساسا عاليا بالقيمة والمعنى دون حاجة لبذل مجهود مضني فلسفيا وروحيا كي يخط المرء معنى لحياته (كما يحدث عند عدم توفر الحب) يحل الحب فينساب المعنى رقيقا سهلا دون ضجيج، ويغيب شيئًا فشيئًا سؤال المعنى والجدوى، لأن الحب أحد أقوى الأجوبة.

يصف المحبون تجربة الحب بأوصاف جذرية  "وُلدت من جديد معها" "خلقني هذا الحب" "شُفيت بحبه وعالجني" تعج هذه الأوصاف بالمعاني فتكون حادثة الحب حادثة معنى في المقام الأول، فيكف المرء عن تساؤلاته حول المعنى والقيمة ولا تعنيه الميتافيزيقا في شيء، منغمسا باللحظة، مغمور بالجمال والسلام حتى يعتري الحب خطب ما.

يقول أحدهم عن إحساسه بوجوده في حضرة محبوبته:

‏أذهب لها وجهًا بلا ملامح أو معالم، وأخرج بملامح وجهي واضحة مكتملة، إنها تراني فأراني، تراني فأجدني، تراني فأكتمل.

‏تقول هي في المقابل:

‏أشعر أني كنت كشظايا، أو كنثرات حديد فُتات، ورؤيته لي كمغناطيس تجمع أجزائي، يدركني بعمق، فيجمعني بي، فأُوجد.


الفيلسوف رينيه ديكارت: "أنا أفكر إذًا أنا موجود"

الأديب ميلان كونديرا: "أنا أحس إذًا أنا موجود"

الفيلسوف جان لوك ماريون: "أنا أحب إذًا أنا موجود"


“إن انعكاسي المتكرر عليك يخلقني ويمنح قيمةً لوجودي لذا نتحدث عن ولادة جديدة عند كل تجربة.. الحب وعي بالوجود وإحساس بالتواجد، لأنه يتطلب وجود الآخر من أجل نفسي(المرآة)، أنا أحبك إذا أنا موجود، وعليه فالحب خلق مزدوج: خلق إلهي، وروح تنفخ في الشخص، إذْ من دون عبارة: أنا أحبك لا يوجد المحبوب، لهذا يخاف المحبوب اختفاء الحبيب، لأن هذا الأخير هو من يمنحه ويهبه العينين واليدين والأنامل و الرموش والجفون والشعر والروح والرقة، أي الجمال عن طريق الغزل" (ظاهرة الحب: ستة تأملات)


ما إن يحل الحب حتى أشعر بأنني في سلام مع الوجود:

       

"تريدون السلام: اخلقوا الحب" فيكتور هوغو


يشعر المحب بأنه على وفاق مع العالم، هكذا كان يصف معنى أن يكون المرء ممتلئاً بالحب، يتساءل كيف لحب شخص واحد فقط أن يخلق حالة أشبه بتحقيق السلام العالمي؟ يتساءل دون إلحاح للإجابة، كان خدِرًا بشعور الوفاق والانسجام، حالة انفعالية تشبه انبعاث المسكن في الجسد بعد مضي وقت طويل من الألم.

أكثر من شكل للسلام في حالة الحب، سلام مع النفس والجسد، سلام مع البشر، سلام مع الحياة، سلام مع النقص والغموض، سلام مع التنوع والاختلاف، لذلك نجد تعبيرات في الشعر عن حالة السلام والتسامح مع كل شيء بفضل هذا الحب، المُحب يعيش في تناغم مع كل شيء.

تقول العاشقة أنها باتت تحب جسدها وتستشعر فيه العافية والجمال والسلام، جسدها هو الجسد الذي يُرى بعين المحبوب ويُلمس به، لتطيب ويطيب وما إن يغيب محبوبها حتى تستشعر الوحشة مع جسدها والعالم، بعكس حالة السلام تكون النفس والجسد واحد، تناغم وانسجام.

نعود لقول عمر الخيام: "دع كل قلبٍ لم يمازجه الهوى أحواه ديرٌ أم حواه مسجدُ، وبدفتر العشاق من خط اسمهُ لم يعْنِه خلدٌ ونارٌ توقد"

من كان عاشقًا، امتزج قلبه بالحب وعاش سلاما مع المجهول فلا يعنيه الخلود ولا العذاب، هو يشير للحب ككل، من تمكّن الحب من قلبه سيحب الحياة والناس والله بما يكفي وهذا الحب يكثف اتصاله بالحياة والسلام ولا ينشغل بالحقيقة الواحدة والمطلقة وما قد يكون خارج هذه الحياة، يقبل الضبابية ويعيش هذا الحب بسلام مع كل شيء فلن تجده متعصبًا.

يقول أيضا عمر الخيام: "كم في المدارس والصوامع من أنفس ترجو الجنان وتخشى النيران، لكن من عرف الإله وسره لم يشغل بذي الأمور جَنانا" ربما معرفة الإله  هنا المقصود بها حب الإله، حب المتصوفة لله الذي يجعلهم كالسكارى لا يشغلهم التفكير في العقاب والعذاب لا لأنهم ينكرونه بل لأن المُحب مشغول بالحضرة، بالحب وما الحب إلا توغل في تلك التجربة العميقة من الجمال والسلام.

هناك شذرة للشاعر الإيطالي بيسوا تلخص عكس هذه الحالة: "أن يكون المرء صارمًا، معناه أنه لا يعرف كيف يخفي تعاسته بكونه غير محبوب" لطالما كان منظر المتزمتين الصارمين، المنشغلين بخطاب العقاب والعواقب في الدنيا والآخرة، المُصرين على نموذج واحد منغلق على نفسه، يوحي لي بأن هناك نقص في تجربة الحب لديهم، ربما لم يختبروا الحب، أو لم تساعدهم تجارب الحياة ونفوسهم بإدخال الحب كما يجب وبخلقه.



ما إن يغيب الحب أو يعتريه السوء:


"لو كان آدم سعيدًا في الحب لوفّر علينا التاريخ" إميل سيوران


قد لا يتحقق الحب ابتداء أو يتحقق ويعتريه السوء، والسوء كلمة عامة أقصد بها كل ما يعطل الحب أو يلغيه أو يحده من أسباب حياتية تتعلق بالفرد أو بالمحبوب أو بالظروف وهناك أسباب لانهائية، بغض النظر عما حدث، سيحل القلق ما إن يغيب الحب أو يعتريه السوء، وكلما كان نقص الحب شديدا وكانت النماذج المُدخلة للحب في ذات المرء شحيحة ستكون الحيرة والضياع، قد تتراجع الحياة وتقفز الميتافيزيقا والأسئلة الوجودية من قبيل "ما المعنى؟ ما الجدوى؟ ما القيمة؟" بالتأكيد ليس كل من يسألها مدفوع بحالة من نقص الحب، لهذه الأسئلة اعتبارها وللميتافيزيقا كذلك، لكن ما كان يستوقفني هو كيف تجتاح هذه الأسئلة الانسان في لحظة صدمته بمن يحب، أو عند الفقد، وكل تهديد يصيب الذات مع الآخر المهم، كنت أرى في عيادتي اجتياحَ هذه الأسئلة ذهن الانسان المجروح والذي اعترت المساوئ تجربته في الحب ، فكانت  محاولة الانشغال بهذه الأسئلة كما لو أنها تنشد إجابة فلسفية فكرية يعطل الالتفات لهذا القلب المجروح الذي ينشد الحب الآمن وينشد الاستقرار فيه ولأن الحب لم  يتحقق أو لم يكن كما يجب، أخذ الجرح طابعا فلسفيا، أسئلة عن الجدوى والمعنى والحقيقة المطلقة، وما يشمل ذلك من انفصال عن اللحظة، وغياب السلام مع النفس والحياة، وطغيان القلق والإحباط، إن الحب حسب طبيعتنا البيولوجية ضروري للحياة والنجاة، في بادئ الأمر نعتمد كليا على الأم كي نحيا يوما إضافيا في الحياة، وتعتمد الأم على الحب الذي تشعر به اتجاه طفلها كي تستمر في العطاء، يمدها جسمها بهرمون الحب ليجعلها أكثر صبرا وارتباطا حضورا للطفل، الذي بدوره لن ينجو إلا بهذه الرعاية والحب، ويكتمل نموه النفسي ويسلم شيء فشيء حسب الحب الذي يستشعره، الحب هو أصل الحياة وهو أحد أهم الاحتياجات، لذلك يأخذ الحب مكانة كبرى في سياق الصحة النفسية  والنمو، ولا عجب أن تجربة الحب تحتل الصدارة تاريخيا من حيث خلودها عبر الشعر والأدب والأساطير.

يكتب واسيني الأعرج عن الحب الأمومي: "الأم حنانٌ لا يعوّض، يبدو لي أحيانًا أننا عندما نحب فنحن نبحث في الوجوه الأخرى عن الأم!

‏أمٌّ أكثر جرأة، قادرة على الذهاب بحبها إلى أقصى الحدود ضاربة عرض الحائط بكل الموانع"


رسالة إلى القارئ:


ربما وأنت تقرأ عن هذا الحب لا تجد فيه شيئا مما اختبرته، وربما تجده مثاليا ومبالغًا فيه، وربما يثير انزعاجك أن خبرة الحب ترادف الشقاء بالنسبة لك، وأنت محق في ذلك، لأني تكلمت عن خبرة الحب في إحدى صورة (العشق) بين اثنين، والعشق الإلهي المتسامي، وفي شكلها الخام الخالي من المنغصات (يطول الحديث عن المنغصات) لكن هناك طيف واسع من صور الحب، الموجه للبشر كحب الأصدقاء، حب الإخوة، حب الأبناء، حب الطبيعة، حب الحياة، حب الحب، حب الأفكار وحب الاهتمامات، كل صور الحب هي حب يحمل معه شيء من السرور والسلام والمعنى والجمال، إن اعترى إحدى صور الحب ما تكره من سوء ونقص ومنغصات، عليك أن تلوذ بالحب في صوره الأخرى وفي صورته الأشمل، حتى يطيب الجرح، وربما انبثق من جرح الحب، الجمال والإبداع والحب نفسه في نهاية المطاف!

لا نحصل على الحب بطلبه بل بتقديمه واستشعار مظاهرة من حولنا وفينا.

اختم بما كتب محمود درويش:

"لا نصيحة في الحب لكنها التجربة 

لا نصيحة في الشعر لكنها الموهبة،

وأخيرًا: عليك السلام!"

Join