تدرجات رماديّة  

أقرب للبياض أو للسواد يا ترى؟    

تعلمت مبكرا أن هناك منطقة رماديّة في الحياة، وكان تفسيري لها أن الحياة ليست باللون الأسود والأبيض فقط، أي ليست بهذا الوضوح والانحياز المتباين، وكانت فكرة مساعدة لفهم تلك الأشياء التي تحدث في المنتصف، وتُطرح بخصوصها خيارات ويبنى على معطياتها قرارات..

يقولون لا تقل لأحد قد أخذ قراره في أمر ما هل هو صحيح أم خاطئ، لأنك لا تعرف حيثيات هذا القرار ولا الظروف حينها، وأن هناك الكثير من الأشياء غير المنطقيّة التي تحدث لنا ولكن بتتبّع مرجعيتها نفهم ولو قليلا لماذا حدثت وبالأخص لماذا اخترنا/قررنا ذلك، وكل هذا تمكنت من استيعابه وفهمه لأنه جَليّ في الحياة بطريقة مزعجة.

كذلك فهمت أن هناك قرارات مهمة، تؤخذ على عجل لضرورة وحتميّة الفصل فيها، وأن هناك أخرى تؤخذ ببطء قدر المستطاع لأنها مصيرية، وهناك قرارات مهمة تؤخذ ببطء في عقلك الباطن وليس لديك إدراك كامل لها، وأخرى مفصلية تؤخذ بأقصى سرعة ممكنة لأن الموقف يتطلب ذلك! فهمت كل هذا، ورأيته.


لكن أن يكون هناك قرار بداخل قرار بمعطيات مختلفة قد تلتقي وقد لا تلتقي، قرار يعكس قرارك الأول المتيقن منه والمستعد له، أو قرار ينسف كل المعطيات التي كانت لديك، أو قرار غير متوقع وليست له صلة في الأساس بالقرار الأول، وبما أنك ناضج وعليك رؤية الخيارات مهما جاءت مبكرة أو متأخرة، جاذبة أو عاديّة، خارج الصندوق أو بديهيّة، والمعطيات مهما كانت بارزة أو غائرة، لأنها قد تكون فرصة لك أو غير ذلك، يتوجب عليك فحصها والاستشارة بخصوصها بجديّة.

قرارات بداخل قرارات كأن الأمر أشبه بالدوّامة، قرارات ليست نهاية العالم بطبيعة الحال ولكنها في صُلب حياتك وتَبعا لها ستكون مسؤولا عنها وملتزما بها لأنها أمر ملازم لك، قرارات ليست في المنطقة الرمادية فقط بل في تدرجات اللون الرمادي، وعليك المفاضلة بين المبشرات والمبشرات الأقل والمخاوف والمخاوف الأكثر حتى تستطيع اللجوء لدرجة رمادية ستطوّع نفسك للتكيف معها لزاما، فهذا كثير ولم أفهمه بعد. 


"اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر

خير لي في ديني

ومعاشي

وعاقبة أمري"

هذا المقطع من دعاء صلاة الاستخارة يهزّك، أنت الذي تواجه قرارات محيّرة فتلجأ لله أن يختار لك، لأنها تلمس حياتك ونفسك ومستقبلك.


كلما شعرتَ بالنضج، تبيّنتَ أنك تدخل مرحلة جديدة منه، تربكك في البداية لكنها في الأخير تقويك وتجعلك أكثر صلابة وليونة (مرونة) في ذات الوقت، هل كل هذه المعاني يتحمّلها النضج؟ لا أعرف في الحقيقة، ربما أن المرحلة القادمة منه تحمل الأجوبة. 


ماذا عن الحيرة بعد القرار؟

يحدث أن تقرر، وتغشاك راحة لهذا القرار وتُقدم عليه بوقار، وتنام تلك الليلة مطمئنا، لتصحو متخوّفا ومتسائلا!

يا الله هل هو قرار صحيح؟

إلهي اجعله صحيحا!

أو أبصرني على أسراره وعوائده التي لو مددتني بالبصيرة لفهمتها، وأرضني به على كل حال لأنه على نور منك وإرشادٍ من لدنك.


ماذا عن مواجهة نتيجة القرار؟

كونك ناضج بقدر كافي حسب ما تدّعي، فأنت قد تنبّأت بنتيجة هذا القرار والوضع بعده نوعا ما، لكن ماذا عن مفاجآت شعورك؟

أكثر ما يدقّ عقلك هو دقّ قلبك (مشاعرك)، أنت المنطقيّ ذو الحكمة ماذا ستفعل حيالها؟

خطؤك الشنيع أن ترى من الحكمة تجاهلها تماما، مهما كان القرار منطقيا وترجيحك لهذا الجانب لا يعني إهمال رعاية شعورك لا سيما وهو أول عتبات الإيمان بأمر تثق بنفسك فيه وتختاره مهما كان ظاهره مجردا من أي عاطفة، لأن شرارة الفكرة والقرار والاختيار في البدء كانت الأحلام أو التطلعات أو الارتقاءات.


وتعرف أيضا؟ من الجدير بالذكر نعمة أنك لا تُمتحن في قرارات خارجة عن إرادتك وسيطرتك.. قرارات عقديّة، أو يقوم عليها مصالح كثير من الناس، أو قرارات قسريّة تعذيبية، نعمة أن هذه الجلبة العظيمة فيما يخص القرارات نخوضها مع أنفسنا أو المقربين منا في منطقة آمنة وليست على أصعدة أخرى!


تكمن فكرة إرباك القرارات لك كونها تحدد نمط اللحظة القادمة من حياتك، وفي الأصل أنك كل لحظة تختار وتقرر، لكن لا تلاحظ هذه العمليات المتعددة من الاختيارات إلا عند القرارات الصعبة أو الكبيرة..

حسنًا بحسب ماذا تحدد هذه المعايير؟

بحسب أهمية هذا الأمر المتعلق بالقرار تجاهنا، ومدى تصورنا بأثره على جودة حياتنا، وما المكاسب المتعلقة بنا حياله.


يطرأ عليّ الآن مدى بشاعة أن (يُقرر) عنك أحد، بالرغم من عدم الأحقية الكاملة، وبين أن تملك زمام قرارك مهما كان محيرا والتفكير فيه شاقّ.    


وأتذكر جمال الفرق الشاسع بين من يملك عدّة قرارات ولا يعدّها ضمن قائمة اختياراته لأنه يريدك أنت، وبين من ليس أمامه غيرك ويقرر اختيارك!


هل هناك بُعدٌ لطيف في القرارات التي نتخذها؟

نعم، إن كانت تعني أن تكون الحياة أكثر توازنا وأقرب مما نريد، إن كانت مهما بدت عسيرة أو بها لزوجة مريرة إلا أنها في صالحنا بحسب المعطيات التي بين يدينا في الوقت الراهن..

 وماذا لو لم يكن هناك بعدا لطيفا في قراراتنا مهما فتّشنا؟

الحياة عريضة، وأمامنا حزم أعرض من القرارات غير المخول بأخذها غيرنا، إن لم تأتي معنا مرة ستأتي أخرى، وليست الحياة لطيفة مجملا على كل حال.  

قرار ملون أم شاحب؟

قرارات ليست في المنطقة الرمادية فقط بل في تدرجات اللون الرمادي، وعليك المفاضلة بين المبشرات والمبشرات الأقل والمخاوف والمخاوف الأكثر حتى تستطيع اللجوء لدرجة رمادية ستطوّع نفسك للتكيف معها لزاما..

Join