قداسةٌ عصريّة
شاهدت صورة الطفل الذي يحمل حقيبتي أختيه الصغيرتين، ودُهشت لردة الفعل المبالغة في المجتمع التويتري، فالكثير يُمجّد الفعل ويصف الطفل بشتّى الأوصاف وعلى رأسها وسام الشرف والتبجيل المزيف (رجّال)،وبهذه الكلمة ينتقل الطفل عبر ثقب أسود ليتحول من مرحلة الطفولةِ إلى مرحلة الشباب وما بعدها.
وهو حقيقةً ثقبٌ أسود شئت أم أبيت! فالطفل لا يستطيع التمييز بين أصوات الثناء، ولا يقدر على إدراك مدى نفعها وحقيقتها، فقد أشكرك على منع أختك من العمل اتباعاً لمبدأ عمل المرأة في بيتها أولى، بالرغم من أن المبدأ خاطئ ولا يرتضيه فرد مسلم بالغ عاقل! وذلك لأننا نؤمن بذات المعتقد.
ونظراً لسرعة الثقب الأسود ستتكون صفات جديدة لدى الطفل قد تضره على المدى البعيد، فقد يرى نفسه رجلاً مسؤولاً عن كل شيء مما يُثقل كاهله، أو يكون شاباً يافعاً يبحث عن التمجيد خلف كل عمل يُقدِم عليه، للأمر أبعادٌ عميقة يتجاهلها البعض تحت حكم المبالغة.
ولم يتوقف التمجيد على الكلمات بل طالب البعض بهدايا ومحفزات للطفل!
سلسلة التمجيد طالت حتى الوالدين، مما جعلني أتوقف قليلاً للتفكر، هل التربية السويّة أمر يُمجّد لأجله الوالدين أم أنها واجبة في أصول التربية؟ حين يكون أبناءك متعاونين، متحابين، يحن ويحترم كل منهم الآخر فهل يقتضي ذلك إلى تقديسك ونرى أنه ما فعلته عملاً خارقاً للعادة، وحدثاً يستحق الاحتفاء؟
باعتقادي لا، لا تستحق القداسة لأن التربية الصالحة والبيئة الصحية هي أُسس تقوم عليها العائلة، يُشكر عليها الوالدان ولا يُمجّدان.
وعي الوالديّة سبيل النجاة من التربية التقديسيّة
حصه الربيعان
لنشاهد الموقف من زاويا مختلفة، من الممكن أن ينبع التصرف بسبب دلال الأختين الصغيرتين، أو أنه نتاج سُلطة من إحدى الطفلتين؟ أو ربما نابع من إلزام للطفل بأفعال تفوق قدرته وتحمله من قِبل الوالدين لأنه (رجُل)؟ - أنا هنا لا أُطلق أحكاماً فقط أتساءل- لأن كل الاحتمالات واردة ومتاحة في المنظومة الكونية.
أفلا تتساءلون؟
كما أن تصرف الطفل يعتبر طبيعياً ولا يتطلب حشد الآراء الشعبية، فتمجيد هذه الأفعال هو ما يُنشئ لنا ذكوراً يرون من أبسط أفعالهم قوة ونجاحاً، (ويتبكبك ويسيل الشتائم) حين يتجاهله العالم، وحين يفشل في عمله، أو حين لا تُدق له الطبول لرعايته عائلته، حين نُمجد فنحن ننقل الفعل من مستواه الطبيعي إلى مستوى التقديس كما لو أن صاحبه اكتشف حمضاً نوويّاً يساعد على علاج البشرية من الأمراض!
لنهدأ يا معشر (المقدسين)..
وأعتقد أن مصطلح القداسة نابع عن معتقدات ذات إرث تاريخي، منذ الأزل والإنسان يميل إلى تقديس الأشخاص وتنصيبهم ومن ثم اتباعهم، ففي السابق كان التقديس للأشخاص ذوي الجاه والحِراك المجتمعي أما الآن فمثل هذا التقديس لم يعد متاحاً، فانتقلنا إلى تقديس الأفعال ثم تقديس أصحابها، ولو أمعنت النظر وأطلقت البصر لأدركت الكثير من الشواهد المماثلة.
ولا أبرح صفحتي هذه قبل إخبارك بأن وسام الشرف الرجولي فيه انتهاك للطفولة، وهذا الانتهاك يحدث حين نسلب الطفل عفويته وطفولته المليئة بالأفعال الجيدة والغير جيدة، فتمجيدنا يجعل الطفل يفكر ألف مره قبل أن يفعل تصرفاً مقارباً له هل سيتلقى ذات التمجيد أم لا؟ وحين لا يجده يعتقد بعقله الطفولي أنه لم يعد مرئياً، ولا يتوقف الأمر عند الطفل صاحب المشهد إنما ينتقل لأطفال آخرين ذكوراً وإناثاً حين لا يتلقون ذات التمجيد من عائلاتهم رغم عملهم ذات الصفات، أيضاً قد نزرع في معتقدات أطفالنا الخداع والتدليس، فكم طفلاً جرب أن يعمل ذات التصرف مع أخته بحثاً عن تمجيد وتقديس.
من الذاكرة:
حين أذهب لأخذ أختي الصغيرة من مدرستها وأحمل حقيبتها عنها كانت ترفض وتشعر بالخجل، فلنتساءل كم طفلاً حاول أن يكون حنوناً مع أخيه أو أخته لكن الآخر رفض ولم يحدث هذا المشهد المقدس، هل هذا يدُل أن الطفل لا يمتلك ذات الفعل المقدس؟
أترك لك حرية التساؤل والجواب.