رحلة فلسفية حول السعادة، اللذة، الفرح.
نصوص من كتاب
قوة الفرح
للكاتب فريدريك لونوار
هل هناك تجربة يتمنَّى الجميع المرور بها أكثر من تجربة الشعور بالفرح؟
هكذا مهد فريدريك لونوار لموضوع كتابه، وقبل البدء في التدوينة دعوني أتحدث لكم قليلًا عن هذا الفيلسوف والكاتب والمؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي، له العديد من الكتب والروايات ومعظمها تتحدث عن الفرح والسعادة ومنها:-
رحلة فلسفية في السعادة
وعد الملاك
سلسلة فكر الزمان
فن الحياة وغيرها من الكتب والروايات.
يقول الكاتب:-” من التوصيفات التي تتكرر علي طوال السنة حول عالمنا اليوم أن هناك حالة من القلق تسود النظرة للمستقبل، وأن العالم يمر بفترة سوداء وهذا بسبب زيادة وتيرة العنف في الكثير من مناطق العالم أكثر فأكثر..
يكمل حديثه ويقول :- “ أنه في مثل هذه الفترات السوداء حيث يراد تعميم الخوف ينبغي البحث عما يمكن أن يسند حياة البشر ويكون ذلك عن طريق تنشيط ثقافة الفرح، ذلك أن الفرح غائب جدًا في المجتمعات، وغائب أكثر لدى المثقفين.”
أثرت علي كلماته هذه بشدة، لذلك قررت كتابة بعض النصوص من هذا الكتاب، لعلي بهذا الفعل قمت بدوري كباحثة في نشر ثقافة الفرح، فالباحث يعتبر منارة تنشر العلم والمعرفة في مجتمعه، يسلط الضوء على الزوايا المهمشة التي تناساها البشر في سعيهم خلف هذه الحياة.
كلنا ننشد الْفَرَح بإصرار لأننا لا نعرفه إلا بشكل عابر، فقد يصور شخصًا ما شعور الفرح بأنه ذلك الشعور الذي يراوده مع محبوبه وأخر يصوره لحظة إنجازه لشيء ما.
إن الفرح في ذاته قوةٌ تهزُّنا وتغزونا وتجعلنا نتذوقه حتى الشبع.
إن شعور الفرح تأكيدٌ على الحياة، هو الشعور الذي من خلاله نتيقن بأننا موجودين، فما من شيء يجعلنا نشعر بأننا على قيد الحياة سوى الشعور بالفرح.
ولكن!
هل بوسعنا أن نساعد على ظهوره، أو كبحه، أو غرسه في أنفسنا؟
ما من سبب آخر للفرح في الحياة سوى فكرة الوجود ذاتها
عندما نبحث عن الفرح في الثقافات القديمة، الشرقية والغربية ليس من المستغرب أن نجد الفلاسفة والحكماء تحدثوا عن هذه الحالة الشعورية، فهي جزء من سلسلة العواطف الإنسانية التي نمر بها أثناء حياتنا.
إن الفرح في مفهومه بسيط وسهل ولم يشغل الفلاسفة قديمًا في محاولاتهم لفهمه مثل سبينوزا، ونيتشه، وبرجسون، بل على العكس تمامًا قاموا بوضعه في قلب أفكارهم.
لكن رغم هذه البساطة لايزال هناك سوء فهم لشعور الفرح، ويتم الخلط بينه وبين اللذة والسعادة.
في هذه المراجعة أركز على توضيح هذه المفاهيم الثلاثة وفق ما جاء به الكاتب.
ما هي اللذة؟
إن اللذة هي الشعور الأكثر انتشارًا والأكثر فورية، هي تجربة نحياها جميعًا حين نُشبع حاجةً أو رغبة يومية.
تشعر بالعطش فتشرب وحينها تشعر بالاستمتاع، ترتشف قهوتك في الصباح الباكر وتشعر بالاستمتاع واللذة.
هذه المتع الحسية هي الأكثر شيوعًا، وثمة متع أخرى، تتعلق أكثر بالداخل، مصدرها القلب أو النفس.
كأن تقابل صديقًا أو تتأمل منظرًا طبيعيًا أو أن تستغرق في قراءة كتاب، أو أن تستمع لموسيقى تثير عواطفك الداخلية وانفعالاتك، هذا كله يجعل الإنسان يستمتع أي يشعر بالإشباع، نحن البشر لا يمكن أن نحيا من دون الشعور باللذة.
إن مشكلة اللذة التي ناقشها الفلاسفة منذ العصور القديمة أنها لاتدوم!
فاللذة ترتبط دائمًا بمثير خارجي لابد من تجدده دومًا، أيضًا ناقش الفلاسفة كون هذه اللذة متناقضة، فالإنسان يشعر بحاجات ورغبات لا يتم إشباعها وأحيانًا يكفي حدوث أمر بسيط للغاية لكي تذهب عنا كل متعة نرجوها، فعلى سبيل المثال قد تلتقي بصديق يعكر صفو مزاجك أثناء استماعك لموسيقاك المفضلة أو أن تجد طبقك المفضل لم يعد بشكل جيد ذلك اليوم!
في هذه الحالات من الصعب للغاية الشعور بالرضا والإشباع بشكل دائم، إن ارتبط ذلك فقط بالسعي وراء اللذة، إن الشعور باللذة قد يرضينا بشكل فوري لكنه يضرنا على المدى البعيد، بل إن تأثيره على المدى الطويل يكشف لنا عن تقدير خاطئ للأمور يقوم به الإنسان.
يطرح هذان العائقان سؤالًا عكف حكماء وفلاسفة الشرق والغرب على دراسته وهو :- أثمة إشباع دائم يتجاوز الطبيعة الزائلة والمتباينة للذة؟
إشباع لا يحده الزمن ولا يرتبط بظروف خارجية ولا يصير في النهاية بمثابة الرفقة السيئة؟ إشباعًا أكثر شمولًا وأكثر ديمومة؟
بسبب هذه التساؤلات قام الفلاسفة والحكماء بابتداع مفهوم السعادة وسعوا فيه أن يقدموا إجابات تتغلب على تناقضات وحدود اللذة ونقاط ضعفها، هذا البحث بدأ في منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد في الهند والصين وركزت الإجابات التي وجدوها على التالي:-
لا توجد سعادة من دون لذة.
ولكن لكي نصير سعداء لابد من أن نتعلم التمييز بين لذاتنا وأن نتعلم التقليل منها.
يقول أبيقور :” ليس ثمة شر في اللذة ذاتها. ولكن من ناحية أخرى، الأسباب التي تسهم في تحقيق بعض من هذه اللذة قد تحدث اضطرابات أكثر مما تحقق من متعة.”
يرى أبيقور أيضًا أن الإكثار من اللذة يقتل اللذة ذاتها.
أبيقور هو بشكل ما رائد الاتجاه الذي نراه رهن التطور اليوم في مجتمعاتنا المشبعة بالسلع المادية والملذات، ويدور حول فكرة “الأقل هو الأكثر” والتي يمكن أن نفهم معناها بأن الأقل هو الأفضل ويرتبط أيضًا بـ”القناعة السعيدة” وهو التعبير الشهير للفيلسوف الفلاح بيير رابحي والذي يستدعي أيضًا فكرة “قوة الاعتدال”.
إذًا ليس ثمة سعادة من دون ملذَّات، ملذَّات معتدلة ومختارة. ولأن اللذة عابرة وتابعة لأسباب خارجة عنَّا، ثمة سؤال يُطرح: كيف يمكن إدامة السعادة؟
بمعنى آخر كيف لسعادتي أن تستمر إذا فقدت عملي؟ أو لو هجرني شريكي؟ أو مرضت؟
أجاب فلاسفة العصور القديمة بضرورة تخليص السعادة من أسبابها الخارجية والعثور على أسباب جديدة لها، لكن في داخلنا هذه المرة.
وهذه هي الدرجة الأعلى من السعادة المسمَّاة الحكمة. أن تكون حكيمًا، يعني قبولك للحياة كما هي، وألّا ترغب في تحويل العالم كله وبأي ثمن نحو تلبية رغباتك، أن تتلذذ بما تملكه، بما هو موجود بالفعل، من دون أن تهدر ما تملكه في تمنّي ما هو أكثر أو في البحث عن شيء آخر.
وتلخص العبارة التي كتبها القديس أغسطينوس ذلك جيدًا:-
”السعادة هي الاستمرار في تمني بقاء ما سبق أن امتلكته بالفعل”.
لنرضَ إذن بما هو محتوم بدلًا من رفضه ومقاومة القدر. حين لا يكون بوسعنا فعل شيء فإن من الأفضل لنا قبول الأمور كما هي، قبول الحياة كما هي.
إن الحكمة تظل هدفًا يصعب الوصول إليه، فهي تقترن بـ”الاستقلالية” أي الحرية الداخلية التي لا تجعل سعادتنا أو شقاءنا يتوقفان على الظروف الخارجية.
هذه الاستقلالية هي التي تعلمنا أن نرضى عن كل ما سيجري، السار منه وغير السار، ونحن مدركون أن السار هذا ما هو إلا فكرة متصورة مثله مثل ما هو غير سار. والحكيم هو من يتفهم الحالتين، فالسعادة التي يسعى إليها هي في الغالب حالة يريد لها أن تكون عامة وإن تستمر لأطول وقت ممكن، على العكس من السعادة العابرة. يعلم الحكيم أن المصدر الحقيقي للسعادة موجود في داخله، إن نظرتنا عن العالم ليست هي العالم، إنما في تصورنا الذي كوناه في أنفسنا عن العالم.
حين يسعد شخص ما في مكان ما، فسيكون سعيدًا أينما حل، والعكس صحيح لأن السعادة شعور داخلي يعبر عن نظرة الإنسان لمحيطه.
نحن اليوم نعايش عصرًا يتم الترويج فيه للسعادة على أنها مرتبطة بالمال والمظهر والنجاح والثراء، ويتم بيع هذه المفاهيم لنا باستمرار مما يجعلنا نقع فريسة سهلة للسعادة اللحظية العابرة وبمجرد أن تتلاشى تترك بداخلنا فراغًا يدفعنا للبحث عن أي شيء يحقق لنا الإشباع الفوري لحاجاتنا الأنانية، هذا النوع من السعادة الجزئية يختلف عن السعادة التي تحدث عنها الفلاسفة، تلك التي يستحيل أن تكون عابرة بل هي حالة مستمرة، غاية تتحقق عبر العمل والإرادة والكفاح.
وبعد أن قمت بإيضاح الفرق بين اللذة والسعادة، حان الوقت لأتحدث عن الحالة الثالثة وهي الفرح، ذلك الشعور الذي هو مصدر الرضا الكبير في حياتنا، يصف الطبيبان النفسيان فرنسوا لولور وكريستوف أندريه الفرح باعتباره “تجربة عقلية ونفسية عميقة تأتي كرد فعل لحدث ما في وقت محدد”.
الخلاصة
تذكر أن السعادة ابنة الفرح الصغيرة، وهي نتيجة قرار شخصي منك بأن تكون سعيدًا كيفما كانت الظروف والأحوال، تذكر أبرز لحظاتك المفرحة والسعيدة، كيف كانت؟ هل هي مرتبطة بشيء خارجي! أم هي ببساطة قرار شخصي وحالة شعورية بأن تكون سعيدًا من الداخل، مطمئنًا ومستقرًا، تكمن روعة هذه التجربة في كونها دائمًا تتميز بالعمق وأنها تمس كيان الإنسان كله: جسده، وروحه وقلبه وخياله.
إن الفرح نوع من اللذة المتضاعفة أضعافًا كثيرة، لذة أكثر كثافة، أكثر شمولًا وعمقًا، إن الفرح تجربة مشتركة بعكس اللذة التي هي في الغالب منفردة، نحن حين نكون في حالة من السعادة نتشارك الفرح مع الآخرين، وننقلها حتى للغرباء، إن الفرح قوة تزيد من قوتنا وقدرتنا على الإحساس بوجودنا، إن للفرح نشوة تجعلنا نفيض بالحياة، إن الفرح إحساس جميل ومتكامل، يستحق أن يعيشه كل إنسان بتجلياته المتنوعه وبأشكاله الراقية والمتفردة، أن ينتشي الإنسان فرحًا هو أسمى ما يمكن أن ينشده طوال حياته.