رمادي ملوّن

-بين الأبيض والأسود سَعة الرمادي-

طويلة هي رحلتها ممتدة، تجوب الكون في انتظار اللحظة المناسبة مثقلة لا تكترث، تكبر في عين السماء ولا يعنيها، وتصغر في عين الأرض وهي تعلوها ولاتبالي، فوق البحار في الليل حينًا وحينًا في وضح النهار، على استقبالها زحام وفي رحيلها برد وسلام، ارفع ناظريك لتراها في السماء، رمادية صادقة لا خجل ولا محاباة ولسان حالها يقول 

لست سحابة صيف بيضاء ناصع لونها تسر الناظرين!

سحابة رمادية

لطالما تحمّل الحياد رخو المبادئ ورهاب الاختلاف،نجاسة الخيانة وقبح الحاقدين، حتى أصبح الحياد معابة والرمادية في الأشياء رتابة والوسط في الأمور نفاق، وبتطرف أصبح في الدين ضلال وفي الحرب احتلال. 

ولست هنا لأكمل المسير في هذا السياق المجحف لظلال الشجر وألوان الحجر والسحب المحملة بالمطر، وكلها في نظري يجسد الحياد بأسمى صوره، بل وحتى الرماد فوق الجمر فما هو الا دليل ركود كوضوء على غضب.

لست مجبرًا على قبول طرحي أو حتى معارضته! فأنا ممن يثريني نقاش لا اتفاق فيه، وأعجب بالمختلف، وتبهرني رمادية الأشياء -على الرغم من راحة البياض وانسيابية السواد- أن تمسك الحبل من المنتصف لتنسدل الأطراف على الأرض بنعومة، أن لا تكون علقمًا ولا سكر بالضرورة… كالماء نقاءً. أن لا تكون صلبًا ولا سائلاً ربما هلامي تؤثر وتتأثر بحدود ودون أن تأخذ شكل الأشياء. أن تقف دون قيود على الحدود فلا تسقط في اي اتجاه ولا تحيد، لا إعادة لا زيادة ولا نقص، لا ابادة ولا عبادة ولا حرص. 

الرمادية في نظري سجية وكم أعشق أن أكون على سجيتي أفاخر بالعفوية وإن رآني البعض ساذجًا! ولا أخجل من عاطفتي وأنا الرجل، ولا ألبس المواقف إلا لباسها ولي في الأرواح ألفة ولي في بعضها اختلاف، فلن أبرر لغاية صدام، ولا لوصول طريق واحد، ولا لشخص انهزام، ولا للمكانة شموخ، فكل النفوس الكريمة تُكرم ولا لوم على لئيمها ولا عتاب على عديمها، ويبقى المبدأ لأهل المبادئ ثابت، والعفو عن الجاهل فضيلة، ولا غاية أعز من أن أمشي في الحياة سلامًا بنقاء وإن قال البعض بتهكم “على نياته” ـ -متناسيًا أن النوايا مقرونة بالأعمال والأرزاق- فنعم أنا البسيط ولا أحب مكانًا لا أكون فيه كذلك، وبساطتي معقدة أو كما أقول رمادية.


الرمادية وجه مجاراة… والحياة مجاراةً أو أنها ستجرك على وجه المآسي عنوة، وعلى شوك الشعور ألمًا، وإلى وحشة المقابر فراغًا. هي الحياة إن جاريتها خففت حدة ايقاعها على روحك وشدة وقعها على قلبك وعدة أيامها الثقال عن كاهلك؛ فأنت المخير وأنت المسير، أنت بابها المغلق وأنت صدرها الرحب ورماديتك هي ميزانها و ورداؤها الأنسب!


حررت في 27.09.24

Join