مُسافر

خلف النافذة

خلف نافذة المقهى الدافيء، تمامًا كما تراه في الأفلام حقيقة مصطنعة! لأن المخرج تعمّد أن ترى تلك الزاوية الحالمة فقط! تمامًا كما يفعل الشاعر عندما يحوّل معشوقته لقصيدة، وتمامًا كما يفعل الكاتب وهو يصف لك أزقة مدينته المفضلة! وكما يفعل المصوّر عندما يختار لك الزاوية الأجمل. 

وحوّل رأسه إلى النافذة فخيّل إليه أن سكان ذلك النجم اللامع سعداء لبعدهم عن هذا البيت

نجيب محفوظ

ستظن أن الحياة جميلة هُناك، أتعلم… كلنا كذلك! فلست الوحيد الذي يحب أن يصدق تلك الكذبة! نريد جميعًا أن نكون خلف تلك النافذة الحالمة، أن نرا من نحب كما يصف الشاعر، أن نسكن المدن كما كُتبت لا كما هي في الحقيقة، أن ننظر لزوايا الحياة كما لو أنها حقول توليب على مد البصر.

نتجاهل أن خلف النافذة كاتب حزين يتأمل السائرين خلف أحلامهم وهو محطّم لا يسعه من طاقته سوا النظر من تلك النافذة! نتجاهل أن الشاعر أحب كما الأعمى، كتب وهو في ذروة حبه، ومن يدري لعله وصف معشوقته شعرًا ليعتذر لها بلغته بعد أن هجرته! نتجاهل أن المدن تصف لنا الحياة، ففي مرحلة ما ستكون الأعذب كما جنّة في أرض شياطين، وأحيانًا أخرى ستكون الآية معكوسة فنكون ملائكة يسكنون قطعة من جنهم! والحياة… لا أعتقد أنك في حاجة لأن أصفها.


كثيرة جدًا هي التناقضات التي نراها و أكثر منها التي نعيشها! سنّة الحياة؛ ففيها لا محظوظ كامل الحظ ولا عديم تام الإعدام، لاهي سفينة نوح ولا هي الطوفان، لاهي بئر يوسف ولا إخوته، لا هي عصا موسى ولا سحر السحرة، لا هي ناقة صالح ولا عقر قومه، لا هي قوم يونس ولا هي الظلمات الثلاث! تناقض مشبع فيها! فتارة تكون لك وتارة تكون لها! 

قطرات الندى تنجذب للأرض وكأنها تتسابق، ضبابية هي الصورة خلف الزجاج… خلف النافذة، كيف هي من الخارج يا ترى؟ حالمة وجذّابة أم كئيبة مزيّفة؟ معالم من اختبؤا خلفها واضحة أم ضبابية؟ والأهم من ذلك هل ذلك يمثل حقيقهم؟ تتسابق الأسئلة كما تفعل قطرات الندى إلا أن الأسئلة تبقى معلّقة في فضاء الحيرة، أما القطرات فتلوذ بحريّة السقوط!

تنعدم الجاذبية في فضاء العقل، نتساوى مع المجانين ويبقى الفارق الجوهري هو أننا نتحكم بذواتنا رغم انعدام الجاذبية،غير أن المجانين قد أطلقوا العنان حتى لذواتهم، ولو أني أكاد أجزم أننا متساوون في الاعتقاد بأن كلانا ليس بالمجنون، بل كلانا ينظر للآخر على أنه كذلك! 

تلك النافذة ليست نافذة المقهى الدافيء هي تلك التي تقف أمام عينيك، تمامًا كمن يرتدي نظارة! لكنها نظارة صنعت من الوهم! من الأفكار من المشاعر ومن المعتقدات. نظارة بوظيفة درع! وبعض الدروع تثقل فرسانها فيخسرون بها حربهم! ولكن…

الحياة كما تنظر إليها، فأنت البصر وأنت الزوايا والنظر.


ما المانع أن ترمي بالدّرع خلف ظهرك؟ لم لا تنطلق بخيلك مكشوف الصدر مستعدًا للموت بينما تخوض حربك؟ الدرع كخوف فارس من غايته! قاتل وهدفك أن تموت على ظهر خيلك! مقدامًا لا يهاب العدو كأنه ملك الموت بأعينهم، لم ينزل ساحة المعركة مهتمًا للنتيجة بل خاضها وغايته أن يخترق الصفوف، ويمزق الصعاب أمامه ليصل… ليموت واقفًا! 

حررت في أمستردام 11.2022

Join