كل إنسان في نهاية المطاف قضية
لطالما شعرت بإن علاقتي بغسّان كنفاني علاقة خاصة بيني وبينه و ثالثنا فلسطين ثالثنا الحق و لاشيء سواه ، لا أذكر متى بدأت أقرأ لغسّان أو أتعرف عليه بقدر ما أذكر جيداً أني منذ صغري كنت مهتمة بالقضية الفلسطينية فكنت في العاشرة من عمري أسجل دخولي على جهاز الحاسوب القديم جداّ الاشبه بالصندوق الكبير لأبحث عن خلود تلك الفتاة التي كانت تردد قصيدة "انا اسمي فلسطيني" وأظل طوال اليوم أسمعها لأحفظ ماتقول و كأنه سيتم اختباري فيها ، أو سيتم سؤالي في أي طرف أنتِ ؟
كنت طفلة ولكن كان بإستطاعتي الوقوف مع الحق فلقد كانت الصورة واضحة كالشمس من بيتنا الصغير في الطائف شمالاً الى فلسطين وضوح تام كنقطة بيضاء وسط سواد لكل العالم عن صاحب الحق و المغتصب عن الارض و الوطن ، أتراه كان من شدة وضوحه يُعمي الابصار ؟
في هذه القضية بالذات لا يوجد رأي ثالث فإما مع أو ضد إما نعم أو لا في هذه القضية لا يوجد عنصر محايد لا يوجد رمادي ، إما كل الحياة أو الموته الاخيرة .
انني أريد أن أتكلم عن الموت ،عن موت يحدث أمامك لا عن موت تسمع عنه.
إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت انها قضية الباقين المنتظرين بمرارة دورهم لكي يكونو درسا صغيرا للعيون الحية.”
" موتة اخيرة " نعم إنها الشعرة الفاصلة بين الفلسطيني و الدار الاخرة فأن تكون فلسطيني يعني هذا أن تموت الاف المرات على مراحل فمثلاّ ستقتلع من أرضك و تطرد من بيتك و تهجّر من وطنك لتسكن في مخيّم على الحدود تموت فيه جوعاّ أو تحبس لبقية العمر أن تسمع من يخّونك فتشتعل النار بجوفك لتحرق كل ماتبقى منك في الداخل أو إن كنت سعيد الحظ ستهرب من المخيّم بقارب الى أوروبا سترمي روحك للبحر ففي هذه اللحظة ليحدث ما يحدث لنموت غرقاً او على اليابسة لم يعد ذلك فرقاً ، لنقل بإن على القارب عشرة أشخاص وطفل غرق الجميع رأيت الطفل يبكي أخذته و تمسكت به رأيت فيه نفسك قبل سنوات احتضنته ووصلت بطريقة ما الى البر أنت الآن لاجئ أو مهاجر غير شرعي ؟ لأن تسميتك هي أكبر الهموم للقنوات الاخبارية و المنظمات تسميتك أهم من مأسآتك، لن تموت جوعاّ أو ممكن ف للموت أشكال عديدة كذب من قال لن تموت من الجوع فإن لم يكن جوع طعام وماء (*هناك في مكان ما طفل يموت جوعاّ بالتزامن مع وقت قرائتك) فهو جوع حنين لتلك الشتلة أمام بيتنا في حيفا و عكا جوع غربة و إشتياق للوطن جوع المفتاح للباب مفتاح البيت الذي يحمله كل شخص اقتلع من بيته وتم نفيه لم أكن أعلم أن لذلك المفتاح خاصية التحول لخنجر فور الوصول لأرض أخرى أيشعر الحديد بالاوطان ؟
أشعر الآن بإن كل ماكتبته بالاعلى معروف ولاشيء جديد فيه
في نقاش لي مع أحد أفراد عائلتي عن الحق العربي الفلسطيني كان قد أخبرني برأيه المتعارف عليه ذلك الرأي الذي يترك القضية الاساسية ويلتفت للتفاهات ، كان قارئاً و مثقفاً لحد ما فسألته سؤالاً واحداً لكي أنهي هذا النقاش الذي دخلت فيه رغماّ عني
- لماذا اغتالوا غسّان كنفاني ؟ و ناجي العلي ؟
- صمت...
- حسناً دعك من هؤلاء لنقل بإنهم كانوا يحملوا سلاح القلم ، ماذا كانوا يريدوا من محمد الدرة ؟ ستطول القائمة بالاسماء ولن أجد إجابة مقنعة أنا أعرف ذلك و أنت تعرف فلماذا كل هذا التظاهر بالعمى ؟
انتهى النقاش لم يتغيّر رأيه وكذلك رأيي كان فقط ذاك النقاش العقيم الذي يحرق الأعصاب للدفاع عن مانؤمن به . قد أكون مخطئة في بعض النقاط قد تشعر بالضعف في حديثي قد لا أملك من الحجة أكثر من الاسباب الدينية و الانسانية و المنطقية و الفطرية فمثلاً لأصحاب الارض الحق في العيش فيها . او كان يجب ان يموت غسّان موته طبيعية على فراشه أو ف المشفى بعد أن تقدمت مراحل شيخوخته لكنهم منعوا وصوله لتلك المرحلة العمرية لقد حرموه ذلك الحق و سلبوا عمره هو الذي لم يحمل سلاحاً بل قلم كانت كلماته مثل السيف بالنسبة لهم ، الضعفاء الذين خشوا الحرب مع غسّان هم برصاصهم ومدراعتهم وهو بقلمه وانتمائه و نضاله لقد اغتالوه لأن كلمة واحدة منه كانت تتفوق على جيوش منهم في التأثير و القوة ، المغفلين محدودي الفكر يظنون بإن بقتلهم للكاتب تقتل كلماته وتدفن معه لم يفكروا للحظة أن بإغتيالهم لغسّان جعلوه خالداً هو و كلماته في عقولنا واحاديثنا للابد . قال غسّان ذات يوم " تسقط الاجساد لا الفكرة " و هو ماحدث فلقد نُثرت أشلائه و تساقط على الارض و في تلك اللحظة حُكم على كلماته وافكاره أن تحيا كل العمر أن يكون لها من الوقت و الحياة ما سُرق من غسّان .
تسقط الاجساد لا الفكرة
حين قلت بإن غسّان كنفاني قضية فهو لأنه فعلاّ كذلك قال عنه محمود درويش إنه إنسانية ايضاّ ، فأنا زرت فلسطين ومشيت بين شوارعها من خلال أحرفه ، كنت مع أم سعد في المخيم ، وفي طريقي الى حيفا برفقة صفية ، كنت مع خالد العائد الاول ، مع الرجال في الخزان متعجبة لماذا لم يطرقوه ؟
كانت لديه تلك القوة العجيبة القادرة على إيصال مأساة شعبه وأرضه بمختلف الاشكال ومن كل الزوايا ، علمني أن أختصر في كلامي وأنه لا داعي لأن نكتب جمل متكلفة لإيصال فكرة عميقة هو الذي استطاع ببساطة الدخول لعقلي وقلبي بقصصه القصيرة في الصفحات طويلة البقاء في الوجدان .
كان شباب غسّان كله مكرّس للكتابة حتى أنني قرأت ذات مرة أنه كان يتعب ويشعر بالاعياء لكنه لا يتوقف عن الكتابة ، كان يكتب كل يوم كم لو أنه يشعر بإنه الكتاب الاخير ، كان يحاول مسرعاً كتابة كل مالديه لهذا العالم كان يخشى أن يموت قبل الكلمة الاخيرة .
وكانت كلماته بالطبع كالرصاص ضد العدو ، منه تعلمت أن الكتابة سلاح قوي وعظيم مخيف لدرجة القتل ولكن فرقها الوحيد عن بقية الاسلحة انها لا تموت بموت كاتبها أنها تخلد أكثر بعد وفاته كبذرة تنبت داخل العقول لتصبح شجرة زيتون مليئة بالمقاومة و النضال .
رغم أنه بقي لي ثلاثة كتب وأنتهي من كل منشوراته إلاّ أنني يمكنني القول بإني مع كل كتاب أكتشف غسّان آخر ولكن فلسطين في كل شخصياته هي الرابط الاصيل بين شخصياته دائماً موجودة حتى ولو لم يذكرها تشعر بإنها موجودة حتماً ؟
حين نشرت غادة السمان رسائله اليها شعرت بإنه فعل خاطئ وبإنه شيء خاص جدا لغسان لا يمكننا انتهاكه ولكن حين قرأتها كلها وددت شكرها ولكن لم يتغير رأيي بعد ، فمن خلال تلك الرسائل استطعت رؤية غسان العاشق بعيداً عن كل شيء كان ذلك الجانب الساحر منه ، أذكر جيداً بإن عيناي اغرورقت أول مرة حين رأيت خط يده في احد الرسائل ورحت أتحسسه كما لو أنه خط شخص من عائلتي توفيّ حديثاً وهذا ماتبقى منه خط على ورق .
رغم انشغاله التام بالمقاومة و الصحافة لم يمنعه ذلك من كتابة قصص للأطفال تحديداّ الى "لميس" إبنة اخته التي كان يحبها كثيراً لدرجة أنه كتب ورسم قصة "القنديل الصغير " من أجلها وكم أحببت تلك القصة وكم شعرت بالدفئ عند قرائتي لها . كانت الحكاية عن أميرة صغيرة تحاول أخذ الشمس الى قصرها، وحين لم تستطتع حبست نفسها وراحت تبكي فأخبرها و كتب "لا يمكنك أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة.”
في كل حكايات غسّان كان هناك طفل وكأنه كان يكتب لكل أطفال العالم قبل كبارهم كان يدرك أهمية مايتم زرعه في الاطفال منذ صغرهم وكيف يؤثر على مستقبلهم كان يكتب من أجلهم حتى يعيشون ماعاشه هو وابناء جيله من شتات و نفي واقتلاع من اراضيهم لا انسى إهداءه في كتاب عالم ليس لنا
" الى فائز ، الى لميس ، الى كل الصغار الذين نطمح بعالم لهم "
أتعلمين ما هو الوطن يا صفية ؟ أن لا يحدث هذا كله .
كيف يمكن للمرء أن يكون مندفع إلى هذا الحد أن يعشق بجنون و يقاوم بجنون ويكتب بجنون و يكون حنون إلى اللاحدود؟
أتراه كان يشعر بإنه سيموت لذلك إختار أن لا يموت بشكل طبيعي و أن يفعل كل شيء وكأنها المرة الاخيرة ؟ متأكدة بإنه كان يشعر
بذلك .
في بداية كل كتاب كان هناك مايسمى (بالتمهيد ) من قبل دار النشر وما اسميه أنا بالتحذير لتستعد أيها القارئ ، أن تتعرى إنسانيتك وتقرأ لأبطال مهمشين نهاياتهم مفتوحة فإما الموت او الجنون ، ستقرأ نبض حاد و مرايا يتقاطع فيها الذاتي و الموضوعي و مأساة يعيشها وطن بين الغربة و الخوف و الموت و الحياة وسط عالم ليس لنا و رحلة ضياع الى المجهول .ولكن أذكرك أن فلسطين هي الخط المتين والرابط بين كل تلك القصص .
تم إغتيال غسان في يوم 8 يوليو 1972 حين ركب سيارته ليوصل "لميس" لبيت صديقتها فانتهى بهما الامر أن يموتوا سوياً ، أي قدر هذا بإن تموت طفولة غسان معه لميس التي كتب لأجلها وللطفولة تموت معه ! تنثر اشلاءهم معاً على أرض بيروت بعيداً عن الوطن .
رحل غسّان جسداً وبقي فكرة وقضية ونضال و مقاومة في ذاكرة كل من قرأ له و عرفه ، إن إغتيالهم لغسّان كان تأكيدا بإنه على حق بقتلهم له جعلوا من لم يعرفه في حياته يعرف عنه بعد موته ، لا يستطيعون قتل كلماته لن ينتهي تأثير كلماته لو جمعوا جميع كتبه وقاموا بحرقها وتفجيرها .حتى رواياته وقصصه التي لم تكتمل كما قال البعض ، شعر آخرون بإن غسّأن ارادها ان تبدو هكذا وانها مكتملة طالما أن رسالتها قد وصلت .
كنت أقول بإنه لا يوجد رثاء موجع بقدر رثاء أحمد مطر لناجي العلي ، ولكن حين قرأت رثاء محمود درويش لغسّان تم عصر قلبي مع كل حرف أهو الرثاء مايجمع المناضلين بالاقلام ؟ ، أتساءل دوماً عن ماذا لو عاش غسّان عمره السبعين مثلاً هل ستكون لدي الفرصة لرأيته ؟ لمخاطبته وجهاً لوجه و التعلم منه ؟ عن ردة فعلي حين أراه ؟ أو ماذا لو مات غسّان موته طبيعية هل كان سيعني لي مايعنيه الآن ؟ أهي طريقة موتنا من تجعلنا عظماء أو مافعلناه في حياتنا ؟
من خرج من عكا يوما ولم يعد، لا يعامل الحياة إلا بسخرية.
أكتب هذا المقال للفتاة التي رأت صورة غسّان ذات يوم خلفية هاتفي وقالت وهي تضحك،
- هل هذا أباك ؟
للجيل الذي لا يعرف غسّان .