خَوَاطِر

مُزْجَاة

By (عبدالمجيد بن سعيد)

مارش/2023م


   عندما كنتُ أرتشف قهوتي السوداء وأتذوقها بعمق باحثًا عن إيحاءاتها المكتوبة على غلافها المثير -حمضية فاكهية شوكولاتة- من منطقة يرغاتشيف الأثيوبية، وكمحقق بليد لا يُحسن ربط الأمور. تمتمتُ شفتاي حينها ثم تسألتُ؛ ماذا لو لم يخترع الورق؟!


توقفت ثم استدرت نحو رفي المتواضع ونظرت إلى كتابٍ له قصة عجيبة قرأت فصلًا واحدًا منه ثم رحل فجأة واختفى فترة من الزمن، بحثتُ عنه كمشتاق أحرقه طول الانتظار وأحترق الأمل معه.

هذا الكتاب فقدته لمدة ثلاث سنوات ونيف، بحثتُ عنه أيام جائحة كوفيد١٩ لعلّهُ يُبعد عني زحمة الوحدة ويمنحني سلوان الحياة وبهجتها. ففقدت الأمل ولم أجده حينها.


مضت الليالي والشهور وفي ليلة هادئة في كنف غرفتي أو كما يحلو لي تسميتها صومعتي أسامر السكون، جاءني قرار صادم بتهجيري من الغرفة والانتقال إلى غرفةً أقل مساحة وسكينة، هذا القرار لم يتخذ بالتصويت أو بالمشورة وإنما بكيد الأخوات، أسقطتُ في أيديهن وقبِلتُ الأمر على مضض، شعرت حينها بقول الشاعر

 

وما حب الديار بنا ولـكنْ

أمرُّ العيش فرقةُ من هوينا

تركت أقرَّ مـا كانت لعيني

وخلفت الفؤاد بها رهينـا

 

وقفت ونظرت إلى أشيائي المبعثرة أقلامي كتبي أوراقي ألواني خربشاتي قصاصاتي حتى ذرات الغبار المترامية على الأسطح تعتبر من ممتلكاتي فهي من وعاظ الهجر تقف صارخة في وجهي لتخبرني عندما أهجر الأشياء.

طالبت بمهلة من الزمن كحق أدنى من حقوق الإنسان المُهجّر للترميم، ليس ترميم الغرفة وإنما ترميم ذاتي المتكسرة، ففي الهجرة سأتخذ قرارات بالتخلي عن بعض أشيائي والاكتفاء بالحد الأدنى، والعمل على تطبيق قاعدة الأجدر يبقى ويُنقل.

فخلال شهرٍ تم نقل أشيائي إلى الغرفة اليتيمة المسحوقة، تلك الغرفة كانت كالمقبرة لا ترد أحدًا، هي باختصار مكانًا للأشياء التي تحمل أسئلة دون أجوبة، لماذا نحتفظ بهذا الشيء لا ندري، ربما نحتاجه مستقبلًا، كومة من الصناديق الورقية تتساءل أسئلة الوجود.

 

وبعد أن تم الانتقال كنت جالسًا على كرسيي الخشبي ذي القماش الرمادي كرمزية للحياد والتسامي، أنظر إلى أشيائي المترامية كعادتي متطفلاً عليها، وفجأة لمحت حرفًا من عنوان كتابي المفقود.

تسمّرت ثواني استجمع ذاكرتي وأشواقي، ما هذا الغياب الطويل وما هذه العودة المفاجئة. هل هذا هو الكتاب المفقود نعم هو بجلده وورقه.


وكأن الكتاب ينطق لي بمثل ما قاله الشاعر ابن جدلان -رحمه الله- بعاميته.

(إن تجمعنا على العزّ.. والطاعة

وأن تفرقنا فجوج الله أوساعي)


 سأخبرك باسم الكتاب:

اسم الكتاب (المادة في حياتنا) للبروفسور مارك ميوداونك -ترجمة يامن بن خضراء- دار الساقي للنشر.

يتحدث الكتاب عن إحدى عشر مادة تشكلت في حياتنا. والتي من ضمنها الورق المخترع منذ أكثر من ألفي سنة والذي يحيط بنا من كل جانب.

 

تخيل معي لو لم يخترع الورق ماذا ستفقد البشرية؟

أعتقد ستصبح العلوم والمعارف الإنسانية محدودة ومحفوظة في صدور البشر أو منحوته على الصخور كالأمم البائدة، وبالتالي لن يكون هناك تراكم معرفي الذي هو ركيزة الاختراعات والتطور وسيعاني الإنسان مع صراع البقاء.

والمؤكد من هذا كله أنك لن تقرأ مقالتي هذه بسبب عدم وجود الورق.

 

قفلة: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).

الحمد لله حمد الذاكرين الشاكرين على واسع فضله وجزيل عطائه وآلائه التي لا تحصى، فالحمد لله والشكر لله على توفيقه وبركاته. 🌿


حرر بتاريخ 3 رمضان لعام 1444هـ الساعة 5:22 فجرًا.

Join