التعقيد الاقتصادي (2)

المؤشر الأهم في الاقتصاد السعودي

١٩ مايو ٢٠٢٠

علاء المكتوم

نواصل حديثنا عن التعقيد الاقتصادي بعد أن انتهينا من الجزء الأول.

لماذا نحلل الصادرات تحديدًا؟

يعتمد مؤشر التعقيد الاقتصادي على بيانات التبادل التجاري الدولي (أي صادرات العالم) لإرساء معادلاته الرياضية. هناك سببان رئيسيان لاتخاذ هذه الوسيلة:


الأول: تمتاز الصادرات بأنها خط النهاية في مقدرات أي دولة، أي أنها الانعكاس النهائي لإمكاناتها. فإذا كانت دولة ما تصدر منتجات متنوعة جدًا ونادرة، فهذا يعني أنها نجحت في العوامل الداخلية التي تجعلها قادرة على تحقيق ذلك.


الثاني: الصادرات هي حزمة البيانات الوحيدة التي تعطينا معلومات ثرية وموثوقة تربط ما بين الدول ومنتجاتها تحت تصنيف عالمي موحد. فجميع المقاييس الأخرى تتطلب تعاونًا من الحكومات ومستوى معين من الشفافية والمصداقية. لكن الصادرات بطبيعتها تتميز بأنها على مرأى من الجميع مما يجعلها قابلة للقياس الموضوعي دون أي افتراض أو تنظير أو اجتهاد.


التعقيد الاقتصادي ودخل الفرد

هناك علاقة مباشرة بين التعقيد الاقتصادي ودخل الفرد من الناتج المحلي (أي غنى الأفراد). كلما ارتفع التعقيد الاقتصادي في الدولة، تزايد دخل الفرد مستقبلاً. هذا يعني أن امتلاك الدولة تعقيدًا اقتصاديًا عاليًا لا يعني بالضرورة أن دخل الفرد فيها مرتفع في وضعها الحالي. أثر التعقيد الاقتصادي دائمًا يحدث في المستقبل.


هذا الرسم البياني (2009) يوضح العلاقة بين التعقيد الاقتصادي ودخل الفرد.


الدول الملونة بالأحمر هي التي تصدّر موارد طبيعية بنسبة تتجاوز 10% من صادراتها. يمكن ملاحظة أن كثيرًا من هذه الدول دخل الفرد فيها مرتفع رغم أن التعقيد الاقتصادي فيها منخفض نسبيًا، مثل السعودية، الكويت، قطر، ليبيا، فنزويلا، عمان، إيران (وهذا تم إيضاح أسبابه في فقرة النفط والألماس في المقال السابق) ثراؤها لا يعبر عن مقدرات الدولة وحجم المعرفة فيها، وإنما ترجع أسبابه لوجود ثروات طبيعية جاءت بسبب الحظ. ويتسم اقتصادها بعدم الاستقرار أمام التغيرات.


الدول الملونة بالأزرق تصدّر الموارد الطبيعية بنسبة أقل من 10%، ويمكن ملاحظة أن العلاقة متسقة لديها بين التعقيد الاقتصادي ودخل الفرد. فكلما زاد التعقيد الاقتصادي، زاد دخل الفرد. بعض تلك الدول تمتلك تعقيد اقتصادي جيد نسبيًا ومع ذلك دخل الفرد فيها منخفض، مثل الهند، والصين، وتايلاند. ولكن كما ذكرنا فأثر التعقيد الاقتصادي يتطلب وقتًا حتى يؤتي ثماره لدخل الفرد. وبالفعل، نجد أن هذه الدول تحقق نموًا متسارع في المشهد الاقتصادي اليوم.



لماذا التعقيد الاقتصادي أفضل من المقاييس الأخرى؟

سعى الأدب الاقتصادي بأشكال مختلفة لتفسير مسببات النمو الاقتصادي. بعضهم يمعن النظر في الحوكمة وجودة المؤسسات القائمة في الدولة (الاستقرار السياسي/سيادة القانون/الأداء الحكومي إلخ)، وآخرون ينظرون في رأس المال البشري (سنوات التعليم/التعليم العالي/المهارات الإدراكية)، وآخرون ينظرون إلى مستوى التنافسية في الدولة (مؤشر GCI والذي يتضمن 150 معيارًا).


هنا سوف نجري مقارنة بين كل من هذه المقاييس الثلاث (مؤسسات/رأس مال بشري/تنافسية) في مقابل مقياس (تعقيد الاقتصاد) لنؤكد أن مقياس التعقيد الاقتصادي أدق منها جميعًا، وأنه أكثر ارتباطًا في قياس نمو الدخل ونمو الاقتصاد.


١. الحوكمة وجودة المؤسسات

أحد أشهر مقاييس هذا العامل هي مؤشرات الحوكمة Worldwide Governance Indicators اختصارًا (WGI) والتي تتألف من 6 مؤشرات رئيسية نشرها البنك الدولي: (الاستقرار السياسي/المشاركة والمساءلة/سيادة القانون/جودة التشريع/فاعلية الحكومة/مكافحة الفساد)


الرسم البياني أدناه يوضح أن تأثير مقياس WGI بكل مؤشراته الستة على النمو الاقتصادي هو 1% فقط، بينما ارتباط مقياس التعقيد الاقتصادي على النمو الاقتصادي يصل إلى 15%:

٢. رأس المال البشري

المنهجيات المعمول بها لقياس رأس المال البشري وأثره على النمو الاقتصادي تركز دومًا على التعليم الرسمي (سنوات التعليم/نسبة المتعلمين/جودة التعليم والمتمثلة في درجات الاختبارات العالمية)، وهي مقاييس تركز على الجانب النظري من المعرفة البشرية. 


مؤشر التعقيد الاقتصادي يهتم أيضًا برأس المال البشري وبشكل أساسي، إلا أنه ينظر له من الجانب العملي، حيث يسلط الضوء -كما أسلفنا- على المعرفة المنتجة التي يحملها المجتمع ككل، ممثلاً بالصنعات التي يمتلكها الأفراد ومدى تنوعها ترابطها مع بعضها، وأثرها على الصادرات.


لا يعني هذا أبدًا أن التعليم التقليدي غير هام، فلابد لبلوغ التعقيد الاقتصادي أن يكون بوسع المجتمع القراءة والكتابة وإجادة الرياضيات وغيرها من العلوم. ولكن نحن نتحدث عن المقاييس. التعليم التقليدي يقيس المخرجات بأن يضع اختبارات موحدة على الجميع لا تعكس تنوعهم، في حين يقيس مؤشر التعقيد الاقتصادي كافة المعرفة المنتجة التي يمتلكها المجتمع ومدى تنوعها الظاهر في مخرجاته الاقتصادية.


ولعمل مقارنة واضحة بين الأداتين، فلننظر إلى حالة غانا وتايلاند.

مقياس التعليم: كان استثمار الدولتين في سنوات التعليم متقاربًا في السبعينات، ولكن في الـ ٤٠ سنة اللاحقة زادت غانا من استثمارها وبقوة في التعليم مقارنة بتايلاند.

مقياس التعقيد الاقتصادي: يتضح أن تايلاند تقدمت كثيرًا في مؤشر التعقيد الاقتصادي، بينما غانا استمر مؤشرها متذبذبًا في نفس المستوى، حيث ظلت تصدر الكاكاو، الألمنيوم، والأسماك، ومنتجات الغابة. منتجات بسيطة التعقيد وقليلة الترابط.

خلال نفس الفترة يتضح الفارق الكبير بين غانا وتايلاند من حيث دخل الفرد من الناتج المحلي (أي ثراء الأفراد). لم يسهم استثمار غانا في التعليم في أي تغيير على دخل الفرد، بينما كان أثر التعقيد الاقتصادي جليًا لدى تايلاند والتي تضاعف دخل أفرادها خمس مرات. يمكن عمل نفس المقارنة مع دول أخرى والوصول لنتائج مشابهة.


ولو أسقطنا هذا التحليل على جميع دول العالم، لوجدنا أن أثر التعقيد الاقتصادي على دخل أفرادها، أوضح وأشد ارتباطًا من أثر جميع عوامل التعليم:

٣. مقياس التنافسية:

يقيس مؤشر التنافسية اقتصاد الدولة بواسطة 150 معيارًا يراها هامة للتنافسية ثم يقوم بجمعها في رقم يمثل المعدل. بينما ينظر مقياس التعقيد الاقتصادي بشكل مباشر إلى المقدرات التي تحوز عليها الدولة بالنظر إلى المنتجات التي تصدرها، ويستنتج الصناعات ذات التنافسية التي يفترض ويُتوقع الاستثمار فيها. (سنأتي لهذا لاحقًا بشيء من التفصيل).


وهنا سنعمل مقارنة بين مؤشر التنافسية، ومؤشر التعقيد الاقتصادي، وأثر كل منهما على نمو الاقتصاد:

يتضح أن تصنيف التعقيد الاقتصادي مؤثر بشكل أكبر بمراحل من تصنيف التنافسية في قياس النمو.


نستنتج من كل هذا أن مؤشر التعقيد الاقتصادي ECI يمكن اعتباره مؤثرًا قويًا على دخل الفرد، لجميع دول العالم، وأنه أداة ممتازة لتخمين النمو الاقتصادي بشكل أقوى من المقاييس المستخدمة عادةً. كما نستنتج أنه مؤشر يعكس كمية المعرفة المنتجة التي يمتلكها المجتمع.


لا يعني هذا أن العوامل الأخرى ليست ذات أهمية، بل إن بعضها جوهري في أي اقتصاد متقدم، لكن ما يهمنا هنا هو إيجاد مؤشر يقيس لنا النمو الاقتصادي، والوجهة الاقتصادية، للدول التي تسعى للنماء وتنويع صادراتها.


المَقْدرات

سبق ووضحنا في المقال السابق أن المنتج الواحد يتطلب صنعة أو أكثر لإنتاجه، ووضحنا أن هذا فيه نوع من التبسيط. ففي الواقع، المنتج يتطلب -بالإضافة إلى صنعات الأفراد- عوامل أخرى مثل: بنية لوجيستية ملائمة، تشريعات حكومية تسهل إنتاجه ولا تتصادم معه، مؤسسات مالية وقانونية تساهم في تواجده، إلى آخره من العوامل التي تعمل كمناخ فعال لكي يتم إنتاجه. وكل هذه العوامل سوف نسميها "مَقدرات" Capabilities. المقدرات هي عوامل غير قابلة للتبادل التجاري، أي أن من الاستحالة جلبها من الخارج، وتحتاج زمنًا طويلاً من النمو الداخلي للخبرات والتشريعات لكي تنضج وتتكامل.


تختلف المنتجات فيما بينها بعدد المقدرات اللازمة لصنعها، وبطبيعة هذه المقدرات.

وكذلك تختلف الدول فيما بينها بوفرة/طبيعة المقدرات التي تحوز عليها. الدولة يمكنها فقط صناعة المنتجات التي تتوفر المقدرات اللازمة لإنتاجها. إذا توفر ٩٠٪ من المقدرات اللازمة لإنتاج منتج معين، فلن يتم إنتاجه، ولكن ستنشأ نزعة لتوفير باقي المقدرات لإنتاجه.


المنتجات المعقدة (شرائح الكمبيوتر مثلاً) كما ذكرنا سابقًا دائمًا تكون قليلة التواجد، أي تنتجها دول أقل، وهي منتجات تتطلب مقدرات عالية. الدول التي تمتلك مقدرات عالية، بوسعها صناعة منتجات عديدة ومتنوعة، ومن ضمنها المنتجات الأقل تواجدًا (شرائح الكمبيوتر).


دعونا نوضح هذه العلاقة الجميلة بين المقدرات والمنتجات في مثال الورد والأغذية الطازجة.

إذا كانت دولة (١) لا تصدر أغذية طازجة، فمن المحتمل جدًا أنها لا تمتلك خط لوجستي متخصص بتبريد الأطعمة، وكذلك من المحتمل جدًا أن أنظمة الجمارك لديها لا تمنح خطًا سريعًا للتخليص الجمركي لهذا النوع من البضائع، وأيضًا من المحتمل جدًا أنه لا يتواجد نظام لمنح شهادات سلامة المأكولات. وبسبب هذه الظروف، فإن أي مستثمر لديه الرغبة في الدخول في هذه هذه الصناعة (تصدير الأغذية الطازجة) ستتصدى هذه العقبات أمام طريقه. هذه العقبات هي مقدرات مفقودة.


لكن، لنفترض أن دولة أخرى (٢) أيضًا لا تصدر الأغذية الطازجة، ولكنها تصدر الورد والزهور. في الغالب إذًا أن لديها خط لوجستي للتبريد، وخط سريع في التخليص الجمركي، ولكن لا يتواجد نظام لمنح شهادات سلامة المأكولات لأن الورد لا يستلزم ذلك. إذًا، هناك تقاطع في المقدرات بين الأغذية الطازجة والورد كما هو موضح في الصورة:

بسبب هذا التقاطع، الدولة في النموذج (٢) لديها فرصة في أن تصدر الأغذية الطازجة أكثر من الدولة في النموذج (١) لأن مقدرات الورد تتقاطع بشكل كبير مع مقدرات الأغذية الطازجة. امتلاك مقدرة (نظام شهادة المأكولات) يكون ملحًا وأكثر جدوى في الدولة (٢) كما أن المخاطرة في توفيره على الدولة أقل بكثير.


تحليل مقدرات كل منتج ومحاولة إيجاد مناطق التشابه بينه وبين كافة المنتجات الأخرى ليس أمرًا سهلاً. لأنه يتطلب تحليلاً دقيقًا للمتطلبات التقنية والمؤسساتية والمعرفية لجميع منتجات العالم ومقارنتها ببعضها، مما يعني كمًا مرعبًا من تقصي المعلومات وتحليلها، أمر شبه مستحيل.


لكن، معادلات التعقيد الاقتصادي تقيس ذلك بشكل أسهل وأدق: إذا كان المنتجان يتشاركان في المقدرات، فاحتمالية أن يتم تصديرهما معًا عالية، وبالتالي نستطيع استنباط المقدرات وعلاقتها ببعضها بمجرد النظر إلى صادرات دول العالم وتحليل علاقتها بمعادلات لوغاريتمية. وسنفصل في ذلك لاحقًا.


تراكم المقدرات لدى الدولة يزداد بشكل أسّي Exponential مع عدد المقدرات الموجود في اقتصاد الدولة أساسًا، وذلك لأنها تتقاطع فيما بينها فتولد مقدرات جديدة ذات جدوى بشكل أسرع (مثال أحرف الأبجدية في المقال السابق).


تجدر الإشارة لملاحظة هامة: كلما ازداد تنوع منتجات الدولة، فإن المنتجات الجديدة تدخل مزيج صادراتها دون التخلي عن تصدير المنتجات التي بدأت بتصديرها. وهذا يبطل بعض النظريات التي تقول أن الدول تتجه إلى التخصص فتتخلى عن تصدير المنتجات البدائية مع مرور الزمن.


هنا نختم المقال بتساؤلات هامة نجيب عليها في المقال القادم:


إذا كان يمكن معرفة كافة المقدرات عند أي دولة من خلال النظر إلى الصادرات وتحليلها، فهل يمكن أن نرسم نموذج بصري واضح لهذه العلاقة بين كافة منتجات العالم والمقدرات اللازمة لها في الدول؟


كيف يمكن أن نعرف ما هي المقدرات الموجودة في اقتصادنا السعودي بشكل واضح؟ وكيف لنا أن نطور هذه المقدرات لكي تولّد منتجات أكثر تنوعًا؟


ما هو مستوى التعقيد الاقتصادي في السعودية؟ ما هي المنتجات التي نصدرها بشكل تنافسي غير النفط؟ وهل لها فرص مستقبلية في النمو والتوسع؟