التعقيد الاقتصادي
المؤشر الأهم في الاقتصاد السعودي
١٨ مايو ٢٠٢٠
علاء المكتوم
لطالما حيرتني هذه الأسئلة كثيرًا: إذا كنا عازمين على تنويع مصادر الدخل، والتخلص من الاعتماد على النفط، فإلى أي القطاعات نتّجه؟ كيف نستطيع معرفة الاتجاه الصحيح؟ هل يفترض أن نستثمر في الصناعات التي تتوافق مع الموارد الطبيعية لدينا؟ هل الأفضل أن نتخصص في صناعات دقيقة ومتقدمة مما يعطينا ميزة تنافسية؟ أم الأفضل أن يكون اقتصادنا متنوع ومتعدد الصناعات؟
وجدت إجابات شافية على هذه الأسئلة بعد قراءة وتحليل جميع منشورات مركز التنمية الدولي في جامعة هارفارد Growth Lab والتي يديرها فريق مستقل من الاقتصاديين الرائعين.
ولما وجدت هذه المنشورات تحوي كمًا غزيرًا من المعلومات المبهرة، والدلائل القوية، والإجابات الشافية على أسئلتي، أحببت أن أترجمها وأبسطها في هذه السلسلة من ٣ تدوينات، آملاً أن أوفق في نقل الفائدة للآخرين.
حتى لو لم تكن مطلعًا على الاقتصاد، فإن المحتوى سيكون سهل القراءة ويخلو من المفاهيم المعقدة والأرقام.
الصّنعة
لم تزدهر المجتمعات المتقدمة لأن أفرادها بارعين وأذكياء، ولا لأنهم مجتهدين ومخلصين أكثر من غيرهم، بل لأن هذه المجتمعات تمتلك تنوعًا عاليًا مما يسمى (Knowhow)، وهو مصطلح لو بحثت عن ترجمته ستجد ترجمات مثل (خبرة) أو (دراية بالعمل) أو (معرفة عملية) أو (مهارة)، ولكن شخصيًا وجدت أن الكلمة الأقرب والأدق لترجمته هي "الصنعة".
لو تأملت هذه المجتمعات المتقدمة، لوجدت أن كل فرد فيها يجيد صنعة معينة تساهم في تكوين منتج ما. تتحد هذه الصنعات وتندمج داخل الشركات لتولّد منتجاتٍ تجارية تباع في الأسواق العالمية، وهو ما يحقق عوائد ترفع من مستوى المعيشة ورفاهية المجتمع ككل.
ماذا نقصد بالصنعة؟ يوجد نوعان من المعرفة التي يكتسبها الفرد أو المجتمع عمومًا. معرفة صريحة (Explicit) وهي التي تُكتسب من الكتب والإنترنت والمخطوطات والوثائق، وهي معرفة يمكن نقلها ونسخها بسهولة من مكان لآخر. يمكن لأي شخص قراءة كيفية ركوب الدراجة، ومشاهدة عشرات الفيديوهات التعليمية، لكن لن يعرف أن يجيد ذلك إلا بالممارسة الحقيقية. وهنا نأتي للنوع الآخر من المعرفة، وهي المعرفة الضمنية (Tacit) وتتصف بأنها لا يمكن نقلها من مكان لآخر بسهولة، لأنها تتواجد في الدماغ فقط، ولنسخها لدماغ آخر فلابد من تدريب عملي مكثف. هي المعرفة التي يمتلكها من يجيد ركوب الدراجة، ويمتلكها طبيب الأسنان الذي يحدد مكان التسوس في الأسنان، ويقوم بإزالته بدقة، وتنظيفه ثم وضع الحشوة كما ينبغي. هذه المعرفة الضمنية هي "الصنعة".
الصنعة التي يمتلكها رجل الإنويت البدائي من سكان القطب الشمالي أكثر تنوعًا وأعلى مستوى من الصنعة التي يمتلكها مبرمج كمبيوتر في وادي السيليكون، حيث يستطيع الإنويت بناء منزله وحياكة ملابسه واصطياد الحيوانات وإسعاف نفسه واستخراج الماء، وقد يكون أكثر اجتهادًا واستغلالاً لوقته وتحملاً للظروف. بينما المبرمج لا يعرف صناعة أي شيء مما يلبسه ويأكله، وكل ما يجيده هو كتابة أكواد كمبيوتر فقط. لكن (المجتمع) الذي ينتمي له المبرمج يمتلك صنعة إجمالية أعلى من (المجتمع) الذي ينتمي له رجل الإسكيمو، وذلك لأنه مجتمع متنوع جدًا، إلى درجة أنه يمكن للفرد التخصص في صنعة دقيقة داخل المنظومة، وذلك لأن عقولاً أخرى تخصصت في صناعة ملابسه وبناء منزله وتشكيل أثاثه، وهو بصفته يضيف شيئًا بسيطًا بما يمتلكه من صنعة متخصصة إلى هذا الفضاء المتنوع من الصنعات.
إذًا ما يهم فعلاً هو تنوع الصنعات في المجتمع. إذا تنوعت، أصبحت تخدم بعضها، ويتشكل ترابط فيما بينها. وكلما ترابطت أكثر، ولّدت خدمات ومنتجات أكثر تنوعًا وتقدمًا بسبب استفادة كل منها من الآخر.
النموذج (١) يتكرر في الدول ذات الاقتصاد البسيط، حيث المنتجات معزولة عن بعضها، وغالبًا ما تكون المنتجات التي يصدرها بسيطة، مثلاً: حبوب قهوة، قطع خشب، ملح. صنعات أصحابها غير مترابطة. والأهم من ذلك، ليس لها فرصة مستقبلية بالارتباط، وبالتالي تعجز عن تصدير منتجات أكثر تنوعًا في المستقبل.
بينما النموذج (2) يتكرر في الدول ذات الاقتصاد المتقدم، حيث المنتجات قريبة من بعضها: إكسسوارات صوتيات، أجهزة بث، مغناطيسات كهربائية، موصلات كهربائية، مقاومات كهربائية، مكثفات كهرباء، دوائر إلكترونية. الصنعات التي تساهم في تكوين هذه المنتجات ليست منوعة وحسب، بل مترابطة أيضًا. وبسبب هذا التنوع والترابط فإنه من المحتمل أن يتم تصدير منتجات متقدمة أكثر في المستقبل مجاورة للمنتجات الحالية.
نستنتج إذًا أن المستوى المعيشي للمجتمع لا يتحسن إذا كان أفراده أكثر ذكاءً أو اجتهادًا أو ثقافة أو تعلمًا، فليست هذه هي المقاييس الصحيحة. المقياس هو امتلاك هذا المجتمع تنوعًا عاليًا وترابطًا قويًا من الصنعات التي تتظافر فيما بينها وتكمّل بعضها بعضًا داخل منظومة إنتاج كما لو أنها شبكة متماسكة. وكلما ازداد هذا التنوع، توسّعت الشبكة، وصار بوسع الأفراد التخصص أكثر، والتكامل أكثر، لسبر أغوار جديدة من المنتجات.
هنالك مثال جميل لهذا المفهوم، لنتخيل أن الصنعات في أفراد المجتمع، مثل أحرف الأبجدية، كلما امتلكت أحرفًا أكثر، صار بوسعك تكوين كلمات أكثر تنوعًا.
لاحظ أن إضافة الحرف O زادت حصيلة الكلمات ١٢ كلمة إضافية، وبعدها، إضافة الحرف S زاد حصيلة الكلمات 39 كلمة إضافية، هل هذا يعني أن الحرف S يولد كلمات أكثر؟ لا، بل يعني أنه كلما أضفنا حرفًا إضافيًا، ارتفعت حصيلة الكلمات بشكل أسّي. وهذا بالضبط ما يحصل عند امتلاك المجتمع صنعات إضافية، يرتفع تنوع المنتجات بشكل أسي. والدولة التي تمتلك أحرفًا عديدة، تستطيع تشكيل كلمات فريدة ونادرة (منتجات معقدة ونادرة).