تسعة آلاف شخص مختلف.. خلال 90 يوماً!
كانت تُمطر بغزارة، الجو بارد للغاية ودرجة الحرارة تحت الصفر.. الرؤية ضبابية، لا أستطيع أن أرى الطريق بوضوح من خلف زجاج النظارة! لكننّي ما كُنت أعبأ بتدفئة نفسي أو رؤية طريقي بوضوح.. كنت أحمي بكلتا يديّ شيئاً أهم من ذلك كلّه!
بريطانيا - 2009
3 أشهر تفصلني عن العودة لأرض الوطن بعد دراسة الماجستير في إحدى جامعات بريطانيا .. كنت أفكر في ما مضى من وقت وفي المستقبل الحالم الذي أسعى إليه .. وتبادرت لذهني فكرة أن أجرّب شيئًا مختلفًا قبل عودتي .. وبالفعل! أعددتُ سيرة ذاتية تحتوي على خبراتي العملية وما أسعى إليه ، وقمت بإرسالها على جهات وشركات كثيرة ومختلفة ..
القبول.. والمقابلة
قبلتني إحدى شركات المبيعات للعمل لديها، وقد كان مقرّ الشركة يبعدُ عن مدينتي مايُقارب الساعة بالقطار، وبعد المقابلة والحديث كانت فكرة العمل تتلخص في أن أكون مندوب مبيعات لإقناع العملاء بمنتج للعزل الحراري، ولكن المفاجأة هي أنني يجب أن أطرق أبواب العملاء الذين لا أعرف شيئاً عنهم سوا عناوينهم، وأن أطرق أبواباً أجهل ما خلفها لأقنعهم بشراء منتج لايحتاجونه، أو لا يناسب ذائقتهم.. والكثير من الاحتمالات الأخرى!
الرحلة الأولى..
نحنُ بطبيعتنا نخافُ الرفض بكل أشكاله
ولهذا فقد كانت هذه التجربة مُعيني الأول على التخلص من فوبيا الرفض والخوف من المجهول..
استيقظتُ يومها في تمام السابعة صباحاً، وقمت بارتداء ملابسي على عجلة كي لا أفوّت القطار.. واتجهتُ للمحطة سريعاً، كان يستغرق طريقي بالقطار ساعة يومياً أقضيها بالقراءة أو تأمل الطريق.. أو النوم من شدة الإرهاق في أحيانٍ كثيرة!
وصلت للمدينة التي أعمل بها وأوقفت سيارة أجرة تُقلّني لمكان عملي الذي يبعد 15 دقيقة عن المحطة.. وصلتُ قبل التاسعة بدقائق.. وقد كانت جلسة تعريفية بأعضاء الفريق، وما يجب علينا القيام به خلال فترة عملنا، وانقسمنا بعدها لفرق مُصغّرة يحتوي كل فريق منها على أربعة أشخاص.. وتمّ توزيع خرائط الحي علينا في تمام الساعة الثانية عشر ظهراً!
كان ينطلق كلٌّ منا في طريقه حتى الساعة السادسة ثم نعود إلى المكتب لنلخص ماحدث لنا خلال اليوم لما يقارب الساعتين تقريباً.. وفي تمام الثامنة مساءً يغادر كل منا إلى منزله ونُعيد اجتماعنا الصباحي لمشاركة المواقف والنصائح وليوجّهنا قائدنا للأفعال والسلوكيات التي من شأنها أن تزيد مبيعاتنا.. وكان تمرّ أيام عملي بهذا الشكل كل يوم
الانطلاق للمجهول
في اليوم الأول، وبعد انتهاء اجتماعنا الصباحي المعتاد انطلق كلٌ منا في طريقه وعندما وصلت للمنطقة التي سأعمل فيها اليوم كانت الساعة الواحدة ظهراً، تبقّت ساعتين ونصف على المغرب.نعم! ففي فصل الشتاء يؤذن المغرب قرابة الساعة الثالثة والنصف. كنت متوترًا للغاية في ذلك اليوم فأنا لم أتعوّد الرفض ولا مخاطبة الغرباء! فضلاً عن أطرق أبوابهم وأطلب منهم أن يشتروا شيئاً ما.. مضى الأسبوع الأول وقد طرقت 600 باب في ستة أيام! مابين كبير وصغير، بريطاني وأجنبي.. متحدّث بالانجليزية أو لا يفقه شيئاً فيها. لقد كان أسبوعاً عصيباً للغاية!
وبرغم أنني بذلت كل جهدي، فأنا لم أقم بأي عملية بيع ذلك الأسبوع، بينما تفاوتت إنجازات زملائي من حولي.. ولهذا كان لابدّ من وقفة!
بعد الأسبوع الأول، اجتمعتُ مع مديري..
“البشر ليسوا مخيفين.. نحنُ من نُعلّق مخاوفنا على الباب قبل طرقه..”
استفتح مديري حديثه بهذه العبارة، ثمّ تابع: “أريدك أن تتخيّل أني أحد عملاءك.. ثم تبدأ بإقناعي بشراء العازل!” وهُنا لاحظ مديري كثيراً من التردد أثناء حديثي.. فعرف المشكلة وبادر لحلها فوراً.. فبدأ بمحاكاة شخصيات مختلفة للعملاء، الغاضب والسعيد، المُسنّ والشاب.. المتحدّث وغير المتحدث بالإنجليزية، الرجل والمرأة.. والكثير!
أمضينا ساعات في التدريب، حتى تحوّل ترددي لثقة.. واستمرّ سلوكي في التمحور حول سؤال واحد: “ما أسوأ ما يمكن أن يحدث؟” وبعد أن أفكر.. أكتشف أن الإجابة : “لاشيء!!” وبهذا فقد زادت مهاراتي كثيرا وتطورتُ تطوراً ملحوظاً في الأسبوع الذي يليه.. وارتفعت مبيعاتي في اليوم الواحد لما يقارب 15 بيعة لكل مئة عميل أقابله.. أي 15%! وكنت آخذ على البيعة الواحدة 15 جنيه استرليني ( ما يساوي 97 ريال تقريباً في ذلك الوقت ) وكانت سعادتي غامرة بهذا الإنجاز! ويوماً بعد يوم بدأت أكسر مخاوفاً أكثر وأتعلم فنونا جديدة للمفاوضات والرد والحديث مع الغرباء..
والأهم من هذا، أنني اكتسبت مهارات لغوية فائقة، وكانت الثلاث شهور التي قضيتها في ممارسة هذا العمل تعادل سنوات دراستي للماجستير من شدة ما اكتسبت من معرفة وخبرات أضافت الكثير لحياتي
كان رئيسي يقول لي في ذلك الوقت: "الناس غير مخيفين! نحن من نعلّق مخاوفنا على الباب قبل أن يفتحوه لنا" وبذلك اكتسبتُ جرأة أكبر في طرق الأبواب، وكنت متشوقاً في كل مرة لرؤية الوجه الذي سيفتح لي الباب، فتارةً تكون شابة في مقتبل العمر متحمسة للحياة والعطاء، وتارةً عجوز غاضبة لا تتحدث الانجليزية! ووقتها أكون في ورطة!
الظلام.. والبرد القارس
كانت ساعات عملي تمتدّ من الساعة الواحدة ظهراً حتى السادسة مساءً، وكان أذان المغرب يؤذن في تمام الساعة الثالثة والنصف مساءً! أي أن الليل يخيّم بعد ساعتين ونصف تقريباً من بدء عملي، وتزداد مع الليل شراسة البرد والثلوج.. كنت أسترق دقائقاً لتناول وجبة دافئة على أحد الأرصة من أحد مطاعم الوجبات السريعة كي لا أتأخر، وكانت صلواتي تكون في الأماكن المنزوية داخل الحارات الضيقة..
لا يذهب ذلك اليوم عن تفكيري أبداً..
كانت تُمطر بغزارة، الجو بارد للغاية ودرجة الحرارة تحت الصفر.. الرؤية ضبابية، لا أستطيع أن أرى الطريق بوضوح من خلف زجاج النظارة! لكننّي ما كُنت أعبأ بتدفئة نفسي أو رؤية طريقي بوضوح.. كنت أحمي بكلتا يديّ شيئاً أهم من ذلك كلّه! الورقة التي أسجل بها بيانات العملاء الراغبين بالشراء لأنهم الأصول التي أبنيها في ذلك الوقت، وبياناتهم هي رأس مالي وكل ما أملك للربح! بدأ الحبر يسيل من الورق.. وشيئا فشيئاً اختفت البيانات تدريجياً حتى فقدتُ جميعها.. أستطيع القول أن جهدي ذهب سُدىً في ذلك اليوم.. ولكنّي عُدت مجدداً للبيوت التي أتذكرها وقمت بكتابة عناوينهم مجدداً واستغرق مني ذلك ساعة عمل إضافية
مرّت الأيام والأيام حتى أكملت ثلاثة أشهر تخللتها الكثيييير من التجارب الملهمة، وتطورت مهاراتي خلالها بشكل قياسي.. ولكنني اضطررتُ للتوقف عن العمل حتى أعود للمملكة، وأبدأ فصلاً مختلفاً من حياتي.. وفيما يلي أسرد لكم الفوائد التي استفدتها من تلك التجربة علّها تُنير الدرب لأحدكم!
1/ الخوف مجرد وهم في أذهاننا
2/ الخطوه الأولى مليئة بالخوف والألم، ولكنّ ذلك يقل فيما بعد
3/ يقولُ الناس دائماً ما يُعجبهم وليس مايُعجبك. لا تأخذ الأمور على محمل شخصيّ
4/ مهما كان أسلوبك مقنعاً، ليس بالضرورة أن يستمع إليك الناس
5/ ليس بالضرورة أن يؤمن الناس بك، الضروري أن تؤمن بنفسك
6/ الطريق السهل للنجاح هو العمل للوصول له! والطريق الأسهل للتميز هو الاستمرار
7/ لن يعتني بك أحد أكثر من نفسك، إِرفق وترفّق بها.
8/ التطوير رحلة، استمتع بها، ولاتتعلق بالنتائج المبهرة دائماً.
9/ التوكل أن تبذل كل ماتستطيعه الآن وتؤمن أن الله معك.
10/ مشاعر الخوف والألم هي بوابة لآفاق كبيرة لم تصلها لولاهما
11/ الجرأة والثقة تأتي بالممارسة والممارسة والاستمرار
12/ ستقع في طريقك أكثر من مره،لايهم! الأهم هو أن تقف من جديد، وتذكّر أن الفشل مؤقت ولكن استسلامنا له يجعله دائماً.
13/ مهما تخيلت أن الطريق سهل، أنت مخطئ! الطريق صعب، ولكن على قدر همتك ستصل.
14/ ليس بالضرورة أن حلمك جميلٌ كما تتخيله لنفسك، قد تحلم بأمر ما وتنجح في أمر مختلف تماماً.
15/ كن دائماً سنداً لمن هم حولك، ولاتنتظر من أحد أن يكون لك سند! "سيأتي من يساندك على اية حال"
مُمتن لقرائتكم،