ضوضاء

استطراد 6

في إحدى ليالي الشتاء الباردة، وفوق إحدى الجبال التي ذهبنا إليها للقيام بطقوس الشتاء المحببة إلى قلوبنا، كنت برفقة الغالية على قلبي وزهرة عائلتنا جدتي-أطال الله في عمرها ومدها الله بالصحة والعافية- كنا نتأمل في تلك النار التي أشعلناها تارةََ، وتارةََ نحتسي القليل من تلك القهوة التي تبث الدفء في أجسادنا المرتعشة من البرد، وتارة نزّين هذه الجلسة بالأحاديث العبقة والقصص المسلية، ومن بين تلك الأحاديث التي تناولتها ألسنتنا وأنصتت لها قلوبنا قبل الأذان، قالت جدتي:

هذا الإنترنت قرّب البعيد وبعّد القريب

جدتي حفظها الله 

وإننا في الآونة الأخيرة ومع وجود مواقع التواصل والانترنت التي وكما قالت جدتي-حفظها الله- عنها “أنها قرّبت البعيد وأبعدت القريب” أصبحنا نعيش في وسط معمعة، في وسط ضوضاء شديدة، هذه الضوضاء سببت لنا الشتات، وأدت هذه الضوضاء لمنعنا من سماع أصواتنا الداخلية!

كيف سببت مواقع التواصل وشبكة الإنترنت كل هذه الضوضاء؟
إن هذه المواقع والبرامج تصب لنا الأحداث صباََ، ففي اليوم الواحد قد يحدث أن تصدر قرارات حكومية وعقوبات دولية، وذاك اللاعب فسخ عقده عن ناديه، وذاك المشهور زل لسانه وتصدّر قائمة الأحداث، في الوقت ذاته فيديوهات أو مقالات تنتشر كالنار في الهشيم وتشغل الرأي العام، هذا ولا ننسى الأحداث العالمية وضجيج الخارجين عن الفطرة والمنحلين!

وتعمدت أن لا أذكر القضايا الإسلامية لإنها لا تعتبر من الضوضاء، كقضية فلسطين وغيرها، أصلح الله أحوالنا..

كل تلك الأحداث والقضايا التي تدور وتشغل الناس في مواقع التواصل تصدر ضجيجا كضجيج قطار قديم يعبر من بين البيوت، أو كضجيج مقهى يرفع أصوات الموسيقى حتى يتأكد أنه ثقب طبلة الإذن لعشرة أشخاص، أو كصوت عمليات البناء والحفريات التي توقظ النائم من رقاده العميق!

القتال مع الضوضاء!

إن الشتات الذي تسببه هذه الضوضاء يمنعنا من التقاط أنفاسنا، يصدنا عن تحقيق أحلامنا، يشغلنا عن إعادة حساباتنا وترتيب أوراقنا، يبعدنا عن عهدنا وغايتنا التي خلقنا الله من أجلها، يمنعنا حتى عن إعطاء كل ذي حقِِ حقه كما أُمرنا!

ولذلك، وجب قتال هذه الضوضاء!

ولكن كيف؟!

سأطرح الآن عدة طرق اتبعها شخصيا للخروج بشكل سلس من وسط معمعة وضوضاء مواقع التواصل وهمومها وإزعاجها!

1-خصص وقتا يوميا ولو لمدة نصف ساعة تغلق فيها هاتفك وكل الأجهزة التي ترتبط بالإنترنت، حاول أن تقوم بممارسة هواية خلال ذلك الوقت أو أن تتحدث مع أحد أفراد أسرتك أو أن تمارس الرياضة أو أحد العبادات، أو أن تخرج من منزلك، المهم أن تبتعد كل البعد عن الأنترنت!

2-إياك أن تبدأ يومك بقراءة الأخبار والأحداث التي حصلت، فقد تجد خبرا مزعجا يقضي على سعادتك ويجعلك تعيش ذلك اليوم في دوامة من الهم والحزن!

3-حاول أن تختار يوما خلال الشهر، تغلق فيه كل المنافذ التي توصلك للشبكة العنكبوتية، وفي هذا اليوم الذي ستختاره، أخرج من منزلك وقم بتجربة شيء جديد، جرب أن تأكل من مطعم جديد، جرب أن تمارس رياضة جديدة، جرب أن تذهب إلى البر أو البحر، جرب أن تذهب للمكتبة، التجارب كثيرة، المهم أن تجرب وتخرج من دائرة الراحة!

4- أغلق إشعارات برامج التواصل! (جرب ولن تندم!)

5-علمني أستاذي أن ادخل من حين لآخر إلى قائمة المضافين لدي على برامج التواصل، وأتخلص من كل الحسابات التي لم استفد منها وأن أتابع الأشخاص الذين يقدمون المحتوى الذي أهتم به

6- الأهم من ذلك كله، دائما قبل نهاية الشهر، وفي نهاية كل يوم وقبل أن تنام، خصص وقتا تقضيه مع نفسك، تتحدث فيها مع تلك النفس المتعبة المثخنة بالجروح المُحملة بالهموم، حاورها وافهم متطلباتها وما الذي تريده منك، وما المشاكل التي تعاني منها والتي تحتاج لتدخل عاجل منك! 

7- وأخيرا، أوقات الصلاة التي فرضها خالق الأكوان علينا، هي مخرج من المعمعة متوفر وبلا أي قيود طالما أننا ما زلنا على قيد الحياة، وهي ملجأ من الضوضاء متاح يمكن لكل شخص أن يلجأ إليه دون أن يواجه أي عقبات، كن متهيئا له دائما، كن مستعدا له في كل وقت وحين، وعندما تأتي تلك الأوقات، حاول أن تبتعد عن كل ما يشتت أفكارك لكي تحصل على أفضل النتائج!

إياك وإياك..

إياك أن تبقى حبيسا في تلك المعمعة، وإياك أن تبقى أسيرا لتلك الضوضاء!

لأنك ستعاني وتعاني، وتعيش في هم وغم، وتبقى متوترا مترقبا، وهذه المعاناة وذلك التوتر سيقضي عليك تدريجيا، سيبعدك عن تحقيق أحلامك وأهدافك، سيجعلك مقصرا مع نفسك ومع كل من هم من حولك، سيجعلك مقصرا مع رب العالمين!

لذلك:

لذلك قاتل وبكل بسالة الضوضاء التي تحيط بك، وانتصر في المعمعة بذكائك ودهائك، لكي تستطيع أن تحقق أهدافك، وتعطي كل ذي حقِِ حقه، وتنطلق في هذه الحياة كسهم ملتهب يعرف طريقه ويتجاوز كل العقبات التي يواجهها، كسهم لا يسقط ولا يهتز حتى يبلغ مداه ويصل لغايته ومراده!

ذلك وغدا أجمل إن شاء الله!


كُتِب بقلم مَحمُود بن عِمَاد خُوجَه
ممتن لك على قراءتك للمدونة
إن شاء الله إنها نالت على إعجابك
إن رأيت أنها تستحق النشر فهذا سيسعدني
وكم تشرفني متابعتك لي على مواقع التواصل الاجتماعي!

Join