العثور على شغف الأمومة والأبوة*
مقال مترجم
الأمومة والأبوة هي إحدى أكثر التجارب إثراء. كما أنها يمكن أن تكون مرهقة ومحبطة ومربكة تماماً. وقعت في الصعوبات التي واجهتها بوصفي أمأ جديدة على حين غرة. كنت أتطلع إلى الأمومة طيلة حياتي وافترضت أن رعاية طفل عملية ستحدث بالسليقة. بدلاً من ذلك ، سرعان ما وجدت أنه ليس لدي أية فكرة عن الموضوع.
طفلتي كانت رائعة، ومع هذا لم يسبق في حياتي أن شعرث بمثل هذا التعب الشديد والضياع وانعدام الكفاءة وفقدان الثقة في نفسي. غرائز الأمومة التي كنت قد افترضت مسبقاً أنها ستقدم لي وضوح الرؤية والتوجيه لم تظهر أبداً. أصبحت حياتي سلسلة متتابعة رتيبة من الإرضاع، ومساعدة طفلتي على التجشؤ وتبديل حفاظاتها وتسليتها، والبكاء المهدئ (الكثير والكثير من الدموع ومعظمها من ابنتي). وعلى الرغم من أنني كنت أبحث وسط أكوام من الكتب المشهورة عن الأمومة والأبوة، لم أجد فيها شيئاً يلامسني.
وبعد أن أعيتني السبل، ساقني القدر فتعثرت براي RIE (موارد لمربيّ الرضيع) النهج القائم على الاحترام في الأمومة والأبوة، والذي أسسته اختصاصية الرضع والرائدة في رعاية الطفل ماغدا غروبر Magda Gerber . وفي الحال شكل هذا النهج منطقاً مفهوماً بالنسبة لي في الأمومة، فتعلقت به كغريق يتشبث بطوق نجاة.
وقبل انقضاء فترة طويلة على هذا، مررت بتحول جذري في كل من الإدراك والخبرة: أولاً من خلال اكتشاف قدرات طفلتي الطبيعية المذهلة للتعلم دون أن يتم تعليمها، وقدراتها على تطوير مهاراتها الحركية والإدراكية، وللتواصل ومواجهة الصراعات الملائمة لعمرها، وللمبادرة بلعبها المستقل وإدارته لفترات طويلة، وأكثر من ذلك بكثير. ثانياً عن طريق إدراكي لحجم الطاقة والجهد الهائلين اللذين كنت أهدرهما في الكفاح من أجل الترفيه عن طفلتي ومحاولة تخمين ما تريده.
على مر السنوات أصبحت ماغدا صديقتي العزيزة ومعلمتي، وفلسفتها في رعاية الطفل أصبحت شغفي. أصبحتُ معلمة في نهج راي في تربية الأطفال (RIE) ، ومحاضرة في مؤتمرات الطفولة المبكرة ، ومدوِنة نشطة مع ملايين القراء من جميع أنحاء العالم ، ومستشارة شخصية في الأمومة والأبوة، ومؤلفة.
هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من 30 مقالة مشهورة لي وشاعت بين عدد كبير من القراء على موقعي على الإنترنت. تركز المقالات على بعض الجوانب الأكثر شيوعًا في رعاية الأطفال الرضع والأطفال الصغار حديثو المشي، وكيف يمكن تطبيق نهج الأمومة والأبوة القائمة على الاحترام معهم.
ستجدون اسم ماغدا أو اقتباسًا لها في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب تقريبًا. كل شيء أعرفه وأكتبه ينبع من حكمتها، وخبرتي الخاصة مع مئات الرضع والأطفال الصغار حديثو المشي الذين مروا عليّ من خلال فصولي الدراسية، ومن خبرتي مع أطفالي الثلاثة (أعمارهم الآن 21 و 17 و 12 عاماً).
يمكن تلخيص نهج راي في الأمومة والأبوة في الوعي بمنظور طفلنا. فنحن نتصور ونعي بأن أطفالنا الرضع هم أشخاص مستقلون وفريدون من نوعهم. ونحن ننمي وعينا هذا عن طريق مراقبتهم، ونسمح لهم بالمساحة التي يحتاجونها ليجعلوننا نرى من هم وماذا يحتاجون؟
كما أن نهج راي في الأمومة والأبوة يجعلنا أكثر وعياً بأنفسنا. فمن خلال مراقبتنا الدقيقة لأطفالنا نتعلم أن لا نقفز للنتائج حول ما يحتاجونه، مثلاً: أن أطفالنا يشعرون بالملل أو بالبرد أو الجوع، أو يريدون أن يمسكوا تلك اللعبة التي يبدو أنهم يلاحظونها في الطرف الآخر من الغرفة.
ونتعلم أن لا نفترض أن تذمر أطفالنا واهتياجهم يعني أنهم يريدون أن يتم إسنادهم ليجلسوا أو يُحملوا، أو أن يتم هزهم أو تحريكهم بطريقة معينة حتى يناموا. نحن ندرك أن الأطفال أحياناً مثلنا يكون لديهم مشاعر يودون أن يشاركوننا إياها وسيتعاملون معها بطريقتهم الخاصة وبدعمنا لهم.
نحن نتعلم أن نفرَق بين إشارات أطفالنا وبين إسقاطاتنا الخاصة في تفسير ما يريدونه. فنحن نصبح أكثر وعياً بالعادات التي نصنعها لهم -مثل وضع الأطفال في وضعية الجلوس قبل أن يتعلموا الجلوس بمفردهم أو هزهزتهم إلى أن يناموا-، عادات يمكن أن تصبح حينها حاجات لطفلنا. فهذه حاجات تم خلقها بشكل مصطنع أكثر مما هي حاجات طبيعية وأساسية لطفلنا.
باختصار، نهج راي في الأمومة والأبوة يطلب منا أن نستخدم عقولنا كما نستخدم غريزتنا لننظر ونستمع عن قرب وبحذر لأطفالنا قبل أن نقوم بأي رد.
تثبت لنا المراقبة الدقيقة لأطفالنا أنهم أفراد كفوئين لهم أفكارهم الخاصة ورغباتهم وحاجاتهم. وحالما نكتشف هذه الحقيقة فلا يمكن أن ندير ظهورنا لها. حينها ومثل آليسون غوبنيك Alison Gopnik وهي واحدة من العديد من الأطباء النفسيين الذين هم في طليعة المستكشفين لموجة جديدة مثيرة من الأبحاث حول عقول الأطفال الرضع، يمكننا أن نتساءل مثلها: "لماذا كنا مخطئين تماماً فيما يخص الأطفال طوال هذا الوقت؟".
المراقبون الخبراء مثل ماغدا غروبر لم يكونوا على خطأ. فمنذ أكثر من 60 عاماً مضت كانت هي ومعلمتها طبيبة الأطفال إيمي بيكلر Emmi Pikler تعرفان ما يثبته الآن وأخيراً بحث غونبيك، وهو: يولد الأطفال الرضع بقدرات تعلم هائلة، وبمواهب فريدة، وبأفكار ومشاعر عميقة. بيكلر وغروبر ترفضان فكرة النظر للأطفال بوصفهم "كتلة من اللطافة" وتنظران للأطفال بوصفهم أشخاص كاملين يستحقون احترامنا.
ربما أفضل وصف لنهج ماغدا "راي" هو فعل ما يتطلبه الاحترام تجاه الأطفال، وفيما يلي كيف يكون ذلك:
1- نتواصل مع الأطفال بشكل حقيقي وأصيل. نتحدث بأصواتنا الحقيقية (لكن بشكل أبطأ مع الأطفال الرضع وحديثو المشي)، ونستخدم كلمات حقيقية ونتحدث عن أشياء حقيقية، وخاصة الأشياء التي تخص أطفالنا بشكل مباشر والأشياء التي تحدث لهم الآن.
2- نشجع الأطفال على بناء مهاراتهم في التواصل عن طريق توجيه الأسئلة لهم وإعطائهم الكثير من الوقت للإجابة، ونقوم دوماً بالاعتراف بمحاولاتهم للتواصل معنا.
3- ندعو الأطفال للمشاركة معنا بفعالية في أنشطة الرعاية والعناية بهم، مثل: تبديل الحفاظات والاستحمام وطقوس الأكل والنوم، ونمنحهم انتباهنا الكامل خلال هذه الأنشطة. مشاركتهم معنا في هذه الأنشطة وانتباهنا المركز عليهم يغذيان علاقتنا بهم، أم/طفل أو أب/طفل، ويقدمان للأطفال الإحساس بالأمان الذي يحتاجونه ليكونوا قادرين على الانفصال عنا والبدء باللعب المستقل لوحدهم.
4- نشجع لعب الأطفال المستقل لوحدهم دون مقاطعتهم، وذلك عن طريق تقديم فرص للعب الحر حتى لأصغر الأطفال الرضع، ومراقبتهم بدقة بحيث لا نقاطع لعبهم دون حاجة، ونثق بأن ما يختاره طفلنا للعب كاف تماماً، بل ممتاز.
5- نمنح الفرصة للأطفال لتطوير مهاراتهم الحركية والإداركية بشكل طبيعي تبعاً لما يمليه جدول نموهم الفطري، ونقوم بذلك عن طريق الفرص التي نقدمها لهم للعب الحر والحركة في بيئات مثرية لهم، بدلاً من تعليمهم أو تقييد عملية النمو الطبيعية عندهم أو التدخل فيها.
6- نثمن دوافع الأطفال الحقيقية وما تدفعهم إليه أحاسيسهم ورغباتهم الداخلية، لهذا فنحن نعترف بالجهد الذي يقومون به عند القيام بشيء ما، ونحرص على عدم المبالغة في مديحهم. ونثق بأن أطفالنا يعرفون أنفسهم أفضل مما نعرفهم نحن، لهذا نتركهم يتولون القيادة في وقت لعبهم واختيار النشاط المثري لهم، بدلاً من إسقاط اهتماماتنا نحن على وقت لعبهم.
7- نشجع الأطفال للتعبير عن مشاعرهم بقبولها بكل صراحة كما هي والاعتراف بها.
8- ندرك أن الأطفال يحتاجون قادة واثقين ومتعاطفين ويحتاجون لحدود واضحة، لكنهم لا يحتاجون لإشعارهم بالعار عند الخطأ أو تقديم مشتتات لانتباههم أو العقوبات أو حبسهم في مكان وحدهم.
9- نترك الأطفال ليحلوا المشاكل التي يواجهونها، ونمنحهم الفرصة لاختبار الصعوبات الملائمة لأعمارهم والتعلم منها، مع دعمنا لهم خلال ذلك.
10- نفهم قوة النموذج الذي نقدمه لأطفالنا، وندرك أن أطفالنا يتعلمون منا من خلال كل كلمة وكل فعل، يتعلمون منا عن الحب والعلاقات والتعاطف والكرم والامتنان والصبر والتسامح والطيبة والصدق والاحترام. والأهم أنهم يتعرفون على أنفسهم وعلى قدراتهم وقيمتهم، ومكانتهم في قلوبنا وفي العالم.
أكثر ما يملؤني بالامتنان نحو ماغدا غروبر ونهج راي هو تلك العلاقات التي أحظى بها مع أبنائي، والتي تقوم على الثقة العميقة والاهتمام المتبادل. الاحترام والثقة لهما تأثير ارتدادي، فما تقدمه هو ما تحصل عليه. وحدث ما وعدتني ماغدا أنه سيحدث، فقد ربيت أبناء لا أحبهم فقط، بل
أحب أن أكون برفقتهم
توفيت ماغدا في 2007، وهي في التسعينات من عمرها. أفكر فيها كل يوم، كما أنها لا تزال تمدني بالإلهام في حياتي وفي عملي. أفتقدها.
* مقدمة جانيت لانسبري Janet Lansbury لكتابها رفع مستوى رعاية الطفل: دليل للأمومة والأبوة القائمة على الاحترام Elevating child care: a guide to respectful parenting