فوائد من (التسعينية) لابن تيمية
[سب ابن تيمية للرسولين إليه من قضاة الأشاعرة]
فأخذا الجواب وذهبا فأطالا الغيبة ثم رجعا، ولم يأتيا بكلام محصل إلا طلب الحضور، فأغلظت لهم في الجواب، وقلت لهم بصوت رفيع : يا مبدلين يا مرتدين عن الشريعة يا زنادقة وكلاما آخر كثيرا، ثم قمت وطلبت فتح الباب والعود إلى مكاني.
[آيات في الرد على من أعرض عن ما في القرآن وأقبل على غيره]
قال تعالى: ﴿ولما جاءهُم رسُول من عند الله مُصدق لما معهُم نبذ فريق من الذين أُوتُوا الكتاب كتاب الله وراء ظُهُورهم كأنهُم لا يعلمُون﴾ إلى قوله: ﴿ولكن الشياطين كفرُوا﴾ ﴿وقال الرسُولُ يارب إن قومي اتخذُوا هذا القُرآن مهجُورا (٣٠) وكذلك جعلنا لكُل نبي عدُوا من المُجرمين﴾ …. الآية، وقال تعالى: ﴿وقال الذين كفرُوا لا تسمعُوا لهذا القُرآن والغوا فيه لعلكُم تغلبُون﴾ ، وقال تعالى: ﴿والذين إذا ذُكرُوا بآيات ربهم لم يخرُوا عليها صُما وعُميانا﴾ ، وقال تعالى: ﴿وإذا قُرئ القُرآنُ فاستمعُوا لهُ وأنصتُوا لعلكُم تُرحمُون﴾ .. وقال تعالى: ﴿إنما المُؤمنُون الذين إذا ذُكر اللهُ وجلت قُلُوبُهُم وإذا تُليت عليهم آياتُهُ زادتهُم إيمانا﴾ ، وقال تعالى: ﴿الذين يستمعُون القول فيتبعُون أحسنهُ أُولئك الذين هداهُمُ اللهُ وأُولئك هُم أُولُو الألباب﴾ ، وقال تعالى: ﴿وإذا سمعُوا ما أُنزل إلى الرسُول ترى أعيُنهُم تفيضُ من الدمع مما عرفُوا من الحق﴾ …. الآية، وقال تعالى: ﴿اللهُ نزل أحسن الحديث كتابا مُتشابها مثاني تقشعرُ منهُ جُلُودُ الذين يخشون ربهُم ثُم تلينُ جُلُودُهُم وقُلُوبُهُم إلى ذكر الله﴾ … الآية، وقال تعالى: ﴿ومن أظلمُ ممن ذُكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداهُ إنا جعلنا على قُلُوبهم أكنة أن يفقهُوهُ وفي آذانهم وقرا﴾ ، وقال تعالى: {وقُرآنا فرقناهُ لتقرأهُ على الناس على مُكث}، إلى قوله: ﴿ويخرُون للأذقان يبكُون ويزيدُهُم خُشُوعا﴾ .
[إلزام الناس بالعقائد التي لا دليل عليها]
مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، قال له: (لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله - ﷺ - تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم وإنما جمعت علم أهل بلدي)، أو كما قال ، وقال مالك أيضا: (إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة). وقال أبو حنيفة : (هذا رأي فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلنا). وقال الشافعي : (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط)، وقال: (إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها). وقال المزني في أول مختصره : (هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء). وقال الإمام أحمد : (ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم). [قال] : (ولا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا). فإذا كان هذا قولهم في الأمور العملية وفروع الدين، لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم ، مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية، فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله - ﷺ -، ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين؟ ، ولهذا قال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد الجهمي، الذي كان قاضي القضاة في عهد المعتصم لما دعا الناس إلى التجهم، وأن يقولوا القرآن مخلوق، وإكراههم عليه بالعقوبة وأمر بعزل من لم يجبه، وقطع رزقه إلى غير ذلك مما فعله في محنته المشهورة ، فقال له في مناظرته لما طلب منه الخليفة أن يوافقه على أن القرآن مخلوق: «ائتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أجيبكم به، فقال له ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بما في كتاب الله أو سنة رسوله ، فقال له: هب أنك تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت، فكيف تستجيز أن تكره الناس عليه بالحبس والضرب ؟».
[أصول أهل البدع قياس عقلي وإجماع سمعي]
عامة أصول أهل البدع والأهواء الخارجين عن الكتاب والسنة تجدها مبنية على ذلك، على نوع من القياس الذي وضعوه، وهو مثل ضربوه يعارضون به ما جاءت به الرسل، ونوع من الإجماع الذي يدعونه، فيركبون من ذلك القياس العقلي، ومن هذا الإجماع السمعي، أصل دينهم. وهكذا أئمة أهل الكلام في الأهواء لا يعتمدون لا على كتاب، ولا على سنة- ولا على إجماع مقبول في كثير من المواضع
[أدلة التوحيد]
التوحيد الذي ذكر الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة، فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله: {وإلهُكُم إله واحد لا إله إلا هُو الرحمنُ الرحيمُ} فأخبر أن الإله إله واحد لا يجوز أن يتخذ إلها غيره، فلا يعبد إلا إياه، كما قال في السورة الأخرى: {وقال اللهُ لا تتخذُوا إلهين اثنين إنما هُو إله واحد فإياي فارهبُون} وكما قال: {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعُد مذمُوما مخذُولا} إلى: {فتُلقى في جهنم ملُوما مدحُورا} وكما قال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبُد الله مُخلصا لهُ الدين ألا لله الدينُ الخالصُ والذين اتخذُوا من دُونه أولياء ما نعبُدُهُم إلا ليُقربُونا إلى الله زُلفى} وكما قال: {والذين لا يدعُون مع الله إلها آخر} .
والشرك الذي ذكره الله في كتابه، إنما هو عبادة غيره من المخلوقات كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم أو قبورهم، أو غيرهم من الآدميين، ونحو ذلك مما هو كثير في هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محقق في التوحيد، وهو من أعظم الناس إشراكا، وقال تعالى: {أفرأيتُم ما تدعُون من دُون الله إن أرادني اللهُ بضُر هل هُن كاشفاتُ ضُره أو أرادني برحمة هل هُن مُمسكاتُ رحمته قُل حسبي اللهُ عليه يتوكلُ المُتوكلُون} وقال: {قُل أفغير الله تأمُرُوني أعبُدُ أيُها الجاهلُون ولقد أُوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملُك ولتكُونن من الخاسرين بل الله فاعبُد وكُن من الشاكرين} وقال تعالى: {وإذا ذُكر اللهُ وحدهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لا يُؤمنُون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دُونه إذا هُم يستبشرُون} وقال تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القُرآن وحدهُ ولوا على أدبارهم نُفُورا} وقال تعالى {وعجبُوا أن جاءهُم مُنذر منهُم وقال الكافرُون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عُجاب وانطلق الملأُ منهُم أن امشُوا واصبرُوا على آلهتكُم إن هذا لشيء يُرادُ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق} ، وقال تعالى: {إنهُم كانُوا إذا قيل لهُم لا إله إلا اللهُ يستكبرُون ويقُولُون أئنا لتاركُو آلهتنا لشاعر مجنُون} وقال تعالى: {وما يُؤمنُ أكثرُهُم بالله إلا وهُم مُشركُون} . قال ابن عباس، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد: يسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره، ويشركون به، ويقولون: له ولد، وثالث ثلاثة. فكان الكفار يقرون بتوحيد الربوبية، وهو نهاية ما يثبته هؤلاء المتكلمون -إذا سلموا من البدع فيه- وكانوا مع هذا مشركين، لأنهم كانوا يعبدون غير الله، قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رُسُلنا أجعلنا من دُون الرحمن آلهة يُعبدُون} ، وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسُول إلا نُوحي إليه أنهُ لا إله إلا أنا فاعبُدُون} ، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كُل أُمة رسُولا أن اعبُدُوا الله واجتنبُوا الطاغُوت فمنهُم من هدى اللهُ ومنهُم من حقت عليه الضلالةُ} .
[أصلا الإسلام]
الإسلام يتضمن أصلين: أحدهما: الاستسلام لله، والثاني: أن يكون ذلك له سالما فلا يشركه أحد في الإسلام له، وهذا هو الاستسلام لله دون ما سواه، وسورة قل يا أيها الكافرون تفسر ذلك.
[إثبات العلو من كلام الجويني]
قال أبو المعالي الجويني في الإرشاد : «ذهب أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمع، دون قضية العقل. قال : والذي يصح عندنا، حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود». قال شارح كلامه أبو القاسم بن الأنصاري : «اعلم أن مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان ثابتتان زائدتان على وجود الإله -سبحانه- ونحوه. قال عبد الله بن سعيد. قال: ومال القاضي أبو بكر في الهداية إلى هذا المذهب».قلت: القاضي قد صرح بذلك في جميع كتبه، كالتمهيد والإبانة وغيرهما.
[القدح في دليل الخصم لا يوجب علما]
[قال عن الجويني في نفي بعض الصفات] ليس لك ولا لأصحابك فيها حجة نافية، بل عمدتك وعمدة القاضي ونحوكما على مطالبة الخصم بالحجة، والقدح فيما يبديه ، والقدح في دليل المنازع إن صح، لا يوجب العلم بانتفاء قوله، إن لم يقم على النفي دليل.
[الجويني]
- أبو المعالي، مع فرط ذكائه، وحرصه على العلم، وعلو قدره في فنه، كان قليل المعرفة بالآثار النبوية ، ولعله لم يطالع الموطأ بحال حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له بالصحيحين البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، وأمثال هذه السنن علم أصلا، فكيف بالموطأ ونحوه؟ وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه، إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني ، وأبو الحسن مع تمام إمامته في الحديث، فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه، ويجمع طرقها، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله
- لا ريب أن هذا سببه كله ضعف العلم بالآثار النبوية والآثار السلفية، وإلا فلو كان لأبي المعالي وأمثاله بذلك علم راسخ، وكانوا قد عضوا عليه بضرس قاطع، لكانوا ملحقين بأئمة المسلمين، لما كان فيهم من الاستعداد لأسباب الاجتهاد، ولكن اتباع أهل الكلام المحدث والرأي الضعيف للظن وما تهوى الأنفس، ينقص صاحبه إلى حيث جعله الله مستحقا لذلك، وإن كان له من الاجتهاد في تلك الطريقة ما ليس لغيره، فليس الفضل بكثرة الاجتهاد، ولكن بالهدى والسداد، كما جاء في الأثر: «ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا» .
- قد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه، يذكر ما ظاهره الاعتذار عن الصحابة، وباطنه جهل بحالهم، مستلزم إذا طرد الزندقة والنفاق، فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين، ولم يقرروا قواعده فقال: «لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك» ، هذا مما في كلامه، وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون أنها أصول الدين، قد علموا أن الصحابة لم يقولوها، وهم يظنون أنها أصول صحيحة، وأن الدين لا يتم إلا بها وللصحابة - ﵃ -أيضا- من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه، حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة، ولكن أخذوا من الرفض شعبة، كما أخذوا من التجهم بشعبة ، وذلك دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم
[قال عن نفي الجهة] : الجويني أجل من يحكي عنه ذلك من المتأخرين، وأبو المعالي ليس له وجه في المذهب، ولا يجوز تقليده في شيء من فروع الدين عند أصحاب الشافعي ، فكيف يجوز أو يجب تقليده في أصول الدين؟ فإذا لم يجز تقليده فيما ارتفع به قدره، وعظم به أمره عند الأصحاب، فكيف يقلد في الأمر الذي كثر فيه الاضطراب، وأقر عند موته بالرجوع عنه وتاب ؟ وهجره على بعض مسائله ، مثل أبي القاسم القشيري ، وغيره من الأصحاب، وإذا كان هذا حال من يقلد إمام الحرمين الأستاذ المطاع، فكيف بمن يقلد من هو دونه بلا نزاع، وذلك لأن التقليد في الفروع، دع الأصول، إنما يكون لمن كان عالما بمدارك الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، وأبو المعالي لم يكن من هذا الصنف، فإنه كان قليل المعرفة بالكتاب والسنة، وعامة ما يعتمد عليه في الشريعة الإجماع في المسائل القطعية والقياس، والتقليد في المسائل الظنية، وكذلك هو في مسائل أصول الدين، غالب أمره، الدوران بين الإجماع السمعي القطعي والقياس العقلي الذي يعتمد أنه قطعي. فإنه في الفروع على مذهب الشافعي ، وبالخلاف المنصوب مع أبي حنيفة ، وأما بالأصول فبالدلائل والمسائل المذكورة في كتب المعتزلة . وأما من تكلم في ذلك من فقهاء المالكية المتأخرين كالباجي ، وأبي بكر بن العربي ، ونحوهما، فإنهم في ذلك يقلدون لمن أخذوا ذلك عنه من أهل المشرق المتكلمين معترفين بأنهم لهم من التلامذة المتبعين، ليس في كلام أحد من هؤلاء استيفاء الحجة في هذا الباب من الطرفين، ولا النهوض بأعباء هذا العمل الذي يحتاج إلى فصل الخطاب في القولين المتعارضين . وأما أئمة المالكية الذين إليهم المرجع في الدين، كابن القاسم ، وابن وهب ، وأشهب وسحنون ، وابنه ، وعبد الملك بن حبيب ، وابن وضاح ، وغيرهم، فهم براء من هذا النفي والتكذيب، ولهم في الإثبات من الأقوال ما يعرفها العالم اللبيب.
[دعوى الأحقية بالتفضيل]
دعوى كثير من أهل الأهواء والضلال، أنهم المحقون، أو أنهم أهل الله، أو أهل التحقيق، أو أولياء الله، حتى تقفوا هذه المعاني عليهم دون غيرهم، ويكونون في الحقيقة إلى أعداء الله أقرب، وإلى الإبطال أقرب منهم إلى التحقيق بكثير، فهؤلاء لهم شبه قوي بما ذكره الله عن اليهود والنصارى من قوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (١١٢) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} وقوله تعالى: ﴿وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير﴾ .
[سبل المبتدعة في التعامل مع النصوص]
تسمية الأخبار التي أخبر بها الرسول عن ربه أخبارا متشابهة، كما يسمون آيات الصفات متشابهة، وهذا كما يسمي المعتزلة الأخبار المثبتة للقدر متشابهة، وهذه حال أهل البدع والأهواء، الذين يسمون ما وافق آراءهم من الكتاب والسنة محكما، وما خالف آراءهم متشابها، وهؤلاء كما قال تعالى: ﴿ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (٤٧) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (٤٨) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (٤٩) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله﴾ . وكما قال تعالى: ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾ ، وكما قال تعالى : ﴿فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون﴾ .
[افتئات كثير من المبتدعة على أئمة السلف]
الجويني أنكر كلاما للآجري في أحاديث النزول والضحك وغيرها وزعم أن أحدا من الائمة كمالك والشافعي لم يروها ، فرد ابن تيمية بسياق أحاديث الصفات من كتب الشافعي ومالك كحديث النزول وحديث معاوية السلمي "أين الله" . بالمعنى
الثوري أعلم من مالك بالحديث وأحفظ له وأقل غلطا منه
[تبين قدر الصحابة بتبين أثرهم]
وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة وعلمهم ودينهم وقتالهم، وإن كان لا يعرف حقيقة أحوالهم، فلينظر إلى آثارهم، فإن الأثر يدل على المؤثر، هل انتشر عن أحد من المنتسبين إلى القبلة، أو عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم؟ أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد، كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم؟
[نقد العقيدة الأشعرية في العقليات والنقليات]
هؤلاء الذين سميتهم أهل الحق، وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة، هم متناقضون في الشرعيات والعقليات.
أما الشرعيات فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل، فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقا، ردوا عليهم وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات، وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة، كالمحبة والرضا والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها، وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم من يحيل على العقل، ومنهم من يحيل إلى الكشف
وأما تناقضهم في العقليات فلا يحصى، مثل قولهم: إن الباري لا يقوم به الأعراض، ولكن تقوم به الصفات، والصفات والأعراض في المخلوق سواء عندهم، فالحياة والعلم والقدرة والإرادة والحركة والسكون في المخلوق هو عندهم صفة، وهو عندهم عرض، ثم قالوا: في الحياة ونحوها هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض، إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين، والصفة القديمة باقية.
ومعلوم أن قولهم العرض ما لا يبقى زمانين: هو فرق بدعوي وتحكم، فإن الصفات في المخلوق لا تبقى -أيضا- زمانين عندهم فتسمية الشيء صفة أو عرضا لا يوجب الفرق، لكنهم ادعوا أن صفة المخلوق لا تبقى زمانين، وصفة الخالق تبقى، فيمكنهم أن يقولوا: بالمخلوق لا يبقى والقائم بالخالق باق، هذا إن صح قولهم : إن الصفات التي هي الأعراض لا تبقى ، وأكثر العقلاء يخالفونهم في ذلك.
وكذلك قولهم : إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة، وإن كل موجود يرى حتى الطعم واللون.
وإن المعنى الواحد القائم بذات المتكلم يكون أمرا بكل ما أمر به، ونهيا عن كل ما نهى عنه، وخبرا بكل ما أخبر به، وذلك المعنى إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية فهو التوراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وإن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له، وأن هذا المعنى يسمع بالأذن على قول بعضهم إن عنده متعلق بكل موجود، وعلى قول بعضهم: إنه لا يسمع بالأذن لكن بلطيفة جعلت في قلبه، فجعلوا السمع من جنس الإلهام، ولم يفرقوا بين الإيماء إلى غير موسى وبين تكليم موسى.
ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو ذلك، لأن هذه لا تقوم إلا بمتحيز، وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز، وجمهور العقلاء يقولون: إن هذا فرق بين المتماثلين.
وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي الصفات بالمحل الذي تقوم به يدل على حدوثها، ثم قالوا: إن الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدثه .
وكذلك في احتجاجهم على المعتزلة في مسألة القرآن، فإن عمدتهم فيها: أنه لو كان مخلوقا لم يخل إما أن يخلقه في نفسه أو في غيره، أو لا في نفسه ولا في غيره وهذا باطل، لأنه يستلزم قيام الصفة بنفسها، والأول باطل لأنه ليس بمحل الحوادث، والثاني باطل لأنه لو خلقه في محل لعاد حكمه على ذلك المحل، فكان يكون هو المتكلم به، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، ولم يعد على غيره كالعلم والقدرة والحياة.
وهذا من أحسن ما يذكرونه من الكلام، لكنهم نقضوه حيث منعوا أن يقوم به الأفعال مع اتصافه بها، فيوصف بأنه خالق وعادل ولم يقم به خلق ولا عدل، ثم كان من قولهم الذي أنكره الناس إخراج الحروف عن مسمى الكلام، وجعل دلالة لفظ الكلام عليها مجازا، فأحب أبو المعالي ومن اتبعه كالرازي أن يخلصوا من هذه الشناعة، فقالوا: اسم الكلام يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الحروف الدالة عليه. وهذا الذي قالوه أفسدوا به أصل دليلهم على المعتزلة، فإنه إذا صح أن ما قام بغير الله يكون كلاما له حقيقة بطلت حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الكلام إذا قام بمحل عاد حكمه عليه، وجاز حينئذ أن يقال: إن الكلام مخلوق خلقه في غيره وهو كلامه حقيقة، ولزمهم من الشناعة ما لزم المعتزلة، حيث ألزمهم السلف والأئمة أن تكون الشجرة هي القائلة لموسى: ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا﴾ مع أن أدلتهم في مسألة امتناع حلول الحوادث، لما تبين للرازي ونحوه ضعفها لم يمكنه أن يعتمد في مسألة الكلام على هذا الأصل، بل احتج بحجة سمعية هي من أضعف الحجج حيث أثبت الكلام النفساني بالطريقة المشهورة، ثم قال : «وإذا ثبت ذلك ثبت أنه واحد وأنه قديم، لأن كل من قال ذلك قال هذا ولم يفرق أحد» هكذا قرره في نهاية العقول.
ومعلوم أن هذا الدليل لا يصلح لإثبات مسألة فرعية عند محققي الفقهاء، وقد بينا تناقضهم في هذه المسألة بقريب من مائة وجه عقلي في هذا الكتاب ، وكان بعض الفضلاء قد قال للفقيه أبي محمد بن عبد السلام في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ فقال له أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري.
و-أيضا- فهم في مسألة القدر يسوون بين الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك ويتأولون قوله: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ بمعنى لا يريده لهم، وعندهم أنه رضيه وأحبه لمن وقع منه، وكل ما وقع في الوجود من كفر وفسوق وعصيان فالله يرضاه ويحبه، وكل ما لم يقع من طاعة وبر وإيمان فإن الله لا يحبه ويرضاه، ثم إنهم إذا تكلموا مع سائر العلماء في أصول الفقه، بينوا أن المستحب هو ما يحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر استحباب سواء قدره أو لم يقدره، وهذا باب يطول وصفه.
[الأشاعرة قريب من المعتزلة]
إن الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهرتم فيه خلاف المعتزلة، وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى، كما في مسألة الرؤية، فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة، ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في إثباته، ولهذا قال من قال من الفضلاء في الأشعري: إن قوله قول المعتزلة ولكنه عدل عن التصريح إلى التمويه ، وكذلك قولكم في مسألة القرآن، فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا: إنه مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم، حتى نصر الله [أهل] السنة وأطفأ الفتنة، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه ومخالفونهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه. وذلك أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فعل الكلام، وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبرئيل هو كلام الله، وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر، وهذه أنواع الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل، وإن الله -سبحانه- يتكلم بما شاء. وقلتم أنتم إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم، هو الأمر والنهي والخبر، وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام الله، والكلام الذي نزل به جبرئيل من الله ليس كلام الله، بل حكاية عن كلام الله كما قال ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله كما قال الأشعري. ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام، وأن من لم يقم به الكلام لا يكون متكلما به، كما أن من لم يقم به العلم والقدرة والحياة لا يكون عالما به ولا قادرا بها ولا حيا بها، وإنه لو كان الكلام مخلوقا من جسم من الأجسام لكان ذلك الجسم هو متكلم به، فكانت الشجرة هي القائلة لموسى: ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري﴾ فهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها.
[أصل الضلال في باب الكلام]
أصل هذا الخطأ أن المعتزلة قالوا: إن القرآن بل كل كلام هو مجرد الحروف والأصوات، وقلتم أنتم: بل هو مجرد المعاني، ومن المعلوم عند الأمم أن الكلام اسم للحروف والمعاني، للفظ والمعنى جميعا كما أن اسم الإنسان اسم للروح والجسد، وإن سمي المعنى وحده حديثا أو كلاما أو الحروف وحدها حروفا أو كلاما فعند التقييد والقرينة، وهذا مما استطالت المعتزلة عليكم به، حيث أخرجتم الحروف المؤلفة عن أن تكون من الكلام، فإن هذا مما أنكره عليكم الخاص والعام، وقد قال النبي - ﷺ -: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» قال له معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ « وشواهد هذا كثيرة.
[منزلة القرآن والسنة عند المتكلمين]
دلالة الكتاب والسنة التي يسمونها دلالة السمع ليست بمجرد الخبر، كما تظنونه أنتم وهم، حتى جعلتم ما دل عليه السمع إنما هو بطريق الخبر الموقوف على تصديق المخبر ، ثم جعلتم تصديق المخبر -وهو الرسول- موقوفا على هذه الأصول التي سميتموها أنتم وهم العقليات، وجعلوا منها نفي الصفات والتكذيب بالقدر .. وقد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن ضرب الله فيه الأمثال، وهي المقاييس العقلية التي يثبت بها ما يخبر به من أصول الدين، كالتوحيد وتصديق الرسل وإمكان المعاد، وأن ذلك مذكور في القرآن على أكمل الوجوه، وأن عامة ما يثبته النظار من المتكلمين والمتفلسفة في هذا الباب يأتى القرآن بخلاصته وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه، بل لا نسبة بينهما لعظم التفاوت.
ومعلوم أن هذا أمر عظيم، وخطب جسيم، فإنكم والمعتزلة تثبتون كثيرا مما يثبتونه من أصول الدين بطرق ضعيفة أو فاسدة، مع ما يتضمن ذلك من التكذيب بكثير من أصول الدين، وحقيقة قولهم الذي وافقتموهم عليه: أنه لا يمكن تصديق الرسول في بعض ما أخبر به إلا بتكذيبه في شيء مما أخبر به، فلا يمكن الإيمان بالكتاب كله، بل يكفر ببعضه ويؤمن ببعضه، فيهدم من الدين جانب ويبنى منه جانب على غير أساس ثابت، ولولا أن هذا الموضع لا يسع ذلك لفصلناه، فإنا قد بسطناه في مواضع، مثل ما يقال: من أنه لا يمكن الإقرار بالصانع إلا بنفي صفاته أو بعضها، التي يستلزم نفيها تعطيله في الحقيقة، فيبقى الإنسان مثبتا له نافيا له مقرا بوجوده مستلزما لعدمه، وإن كان لا يشعر بالتناقض.
[خبرة الأشعري بمذهب أهل السنة]
لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد ونحوه بالبصرة وبغداد، فإن الأشعري أخذ السنة بالبصرة عن زكريا بن يحيى الساجي، وهو من علماء أهل الحديث المتبعين لأحمد ونحوه، ثم لما قدم بغداد أخذ عمن كان بها، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث إما ألفاظ زكريا بن يحيى الساجي التي وصف بها مذهب أهل السنة، وإما ألفاظ أصحاب الإمام أحمد وما ينقل عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة، وإلا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث، وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة، لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوال أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير.
وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل ولهذا لما صنف كتابه في مقالات الإسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام واختلافهم على التفصيل، وأما أهل السنة والحديث فلم يذكر عنهم إلا جمل مقالات، مع أن لهم في تفاصيل تلك الأقوال أكثر مما لأهل الكلام، وذكر الخلاف بين أهل الكلام في الدقيق ولم يذكر النزاع بين أهل الحديث في الدقيق، وبينهم منازعات في أمور دقيقة لطيفة، كمسألة اللفظ، ونقصان الإيمان، وتفضيل عثمان، وبعض أحاديث الصفات، ونفي لفظ الجبر وغير ذلك من دقيق القول ولطيفه.