مراجعة لكتاب


الأخلاق العصبية


تأليف: رضا زيدان

عن الكتاب


يهدف الكتاب إلى نقد الاختزال المادي العلمي للأخلاق ، و المقصود بالاختزال المادي هو القول بأن كل حالة عقلية أو نفسية أو أخلاقية يقابلها حالة فيسيولوجية أو عصبية في الجسد –الدماغ تحديداً- ، و بالتالي يكون هدفُ البحث في الأخلاق عند من يتبنى هذه النظرة المادية هو محاولةَ اكتشاف تلك الحالات الفيسيولوجية أو العصبية في الدماغ التي ترتبط بتلك الحالات النفسية أو الأخلاقية. الكتاب مُقسَّم إلى أربعة فصول. يستعرض المؤلف في الفصلين الأول و الثاني الخلفية التاريخية لفلسفة العقل لارتباطها بموضوع فلسفة الأخلاق ، مخصصاً الفصل الثاني لأهم مذاهب فلسفة العقل في القرن العشرين. ثم يقدم المؤلف أطروحته الرئيسة في الفصلين الثالث و الرابع.


طريقة المؤلف في تأليفه –كما لاحظت في أكثر من كتاب- هي استخدام النقولات الكثيرة كأحجار بناء ليبني أطروحته الرئيسة بحيث يوردها في نظمٍ و ترتيب معين بهدف بناء الفكرة التي يريد إيصالها ، و لولا ذلك النظم – أي لو نظرت إلى تلك النقولات منفردةً- لما وجدت تلك الفكرة التي عنده. لا يقتصر دور المؤلف على ذلك النظم فقط ، بل تجده يتدخل إما شارحاً أو ناقداً أو محللاً بحيث يربط بين الأفكار المختلفة لمن ينقل عنهم.


أهم الفلسفات العقلية


يستعرض المؤلف في الفصل الأول أهم فلسفات العقل منذ (ديكارت) و حتى (هيوم) و يمكن الاستغناء عن هذا الفصل بالكامل (قرابة 40 صفحة) بالنسبة لمن عنده خلفية عن تلك الفلسفات ، و الاكتفاء بأهم نتائج هذا الفصل و هي أثر ثنائية العقل و الجسد التي وضعها (ديكارت) على ما بعدها من فلسفات ، و كيف أن تلك الثنائية خلقتْ إشكالاً حول كيفية التفاعل بين العقل (لا مادي) و الجسد (مادي) و آلية تأثير اللامادي في المادي. هذه الإشكالية أفضت بالفلاسفة من بعد ديكارت إلى الأحادية ، إما أحادية مثالية كما عند (باركلي) أو أحادية مادية تجريبية كما عند كثير ممن جاء بعده وصولاً إلى الماديين العلمويين المعاصرين.


من بين الفلسفات التي استعرضها المؤلف ثلاثة مذاهب كان لها التأثير الكبير في الإشكالات المعاصرة حول حرية الإرادة و الأخلاق و التي نشأت بسبب ميلٍ عام إلى العقلية العلموية التي من تبعاتها تصويرُ الإنسان و كأنه آلة أو حاسوب. تلك المذاهب هي المذهب السلوكي الذي نشأ كحركة في علم النفس ، و المذهب الوظيفي ، و الاختزالية المادية.


أما المذهب السلوكي فجعل من السلوك أساساً لدراسة النفس "إذ يقول السلوكيون المنهجيون إن النوع الوحيد الممكن من التدليل المتعلق بالحالات العقلية لشخص ما –بما في ذلك حالاتنا الذاتية- يكمن في السلوك الخارجي –اللفظي و غير اللفظي- المُلاحَظ للشخص" (ص: 44). و سبب هذا التوجه عندهم هو اعتقادهم أن علم الحالات العقلية "يجب أن يعتمد على الدليل التجريبي الموضوعي الذي يمكن تأكيده من خلال عدد من الملاحظين المستقلين ، أما الاستبطان فهو بالضرورة حالة خاصة و ذاتية" (ص: 44). فمثلاً خروج الشخص من بيته و معه مظلة و السماء تمطر دليل على "اعتقاده" بأن السماء تمطر. لا تتناول السلوكية المنهجية طبيعة تلك الحالات العقلية أو النفسية ، خلافاً للسلوكية المنطقية التي تتطرف فتقول إن تلك الحالات ليست سوى السلوك نفسه ، فكأنها تلغي وجود حالات عقلية أصلاً.


واجهت السلوكية انتقادات حادة منعت من القبول بها ، و أبرز تلك الانتقادات هو أن سلوك شخص ما لا يعتمد على اعتقاده فقط "إنما يعتمد على حالات أخرى قد يمتلكها الشخص كالرغبات" فذلك الشخص الذي خرج من بيته والسماء تمطر قد يرغب بالابتلال فلا يخرج بمظلة و هذا لا يمنع من اعتقاده بأن السماء تمطر بالفعل (ص: 44). أما الانتقاد الآخر فهو أن اعتقاداً واحداً يمكن أن يُسبب عدداً من أنواع السلوك المختلفة والتي ربما لا يوجد بينها أي سمات مشتركة ، و قد لا يستطيع الملاحظ الخارجي أن ينسب تلك السلوكات لذلك الاعتقاد من دون علمٍ بأنها صدرت عنه.


أما المذهب الوظيفي فـ "يُسلّم بحقيقة أنه من المستحيل تحديد هُوية الحالات العقلية بأنواع الميول السلوكية" (ص:48). و يهتم هذا المذهب بالحالات العقلية من حيثُ وظيفتُها و دورُها في جعل الشخص يتصرف على هيئة معينة و وفق سلوك معين ، و يتناول العقلَ و كأنه وحدة معالجة تجمع البيانات من الجسد –كالإحساس بألم نتيجةً لإصابة في اليد- ثم تُصدر المخرجات إما على هيئة معتقدات –كالاعتقاد بتضرر اليد المصابة- أو على هيئة سلوك –كتغطية اليد بلفافة-. و لذلك تجد أنصار هذا المذهب يشبهون العقل بالحاسوب ، و هذا أكثر من مجرد تشبيه بل اعتقاد حقيقي بأن العقل حاسوب بيولوجي. "و مع أن المذهب الوظيفي لا يقول شيئاً عن طبيعة العقل وليس نظرية مادية في حد ذاته إلا أن من الممكن أن يُرى كنظرية متوافقة مع روح المذهب المادي" (ص:50). ثم إن هذا المذهب –في نهاية الأمر- هو نتيجة من نتائج رفض ثنائية العقل و الجسد ، و إحدى محاولات تقديم رؤية للظواهر العقلية من دون اللجوء إلى افتراض جوهر غير مادي كالعقل عند (ديكارت).


أبرز الحجج ضد هذا المذهب هي ما تُسمى بحجة الطيف المعكوس. و تعترض هذه الحجة على الوظيفية بأن الوظيفية تُهمل مسألة "الكيفية". بمعنى آخر ، يمكن أن نصف خبرةً ما –كرؤية اللون الأحمر مثلا- بحسب المذهب الوظيفي و نذكر نمط العلاقات التي تسببه تلك الخبرة و السلوك الذي ينتج عنها ، و لكن ستجد في نهاية الأمر أن هذا الوصف يصح في وصف رؤية شخص آخر للون الأخضر مثلاً ، و لكن بحسب وعينا ندرك أن رؤية اللون الأحمر شيء مختلف عن رؤية اللون الأخضر.


أخيراً هناك الاختزالية المادية التي أشرنا إليها في صدر هذه المقالة. إلا أن هناك مادية إقصائية أشد تطرفاً تلغي أي نوع من الموجودات النظرية –و منها المعتقدات العقلية- التي لا يمكن إثباتها تجريبياً.


أفرد المؤلف صفحات خاصة لعرض أفكار (تشومسكي) في اكتساب اللغة -بالرغم من أنه يُعد من أنصار المذهب الوظيفي-. ما يهمنا هنا هو أن (تشومسكي) يؤكد على تفرد الإنسان بملكة خاصة هي الملكة اللغوية و هي ملكة فطرية يرثها الإنسان جينياً و هي من ضمن البنية البيولوجية لدماغ الإنسان ، و بالتالي يصير علماءُ الأعصاب هم المخولين للكشف عن التمثلات الذهنية في الدماغ. هذه النزعة الفطرية جعلت بعض علماء البيولوجيا التطوريين مثل (مارك هوسر) يفسرون الأخلاق بطريقة فطرية على النهج التشومسكي في اللغة (ص: 60). "و ينبغي التنبيه هنا إلى أن النزعة الفطرية البرمجية تختلف عن الفطرية الديكارتية في أمر مهم و هو إنكار الاستبطان أو تجاهُلُه" (ص: 64). أي أنها تلغي الوعي بالذات ، خلافاً للفلاسفة القدماء الذين جعلوا الوعي بالذات قضية مُسلَّمة. و بهذا يتضح لنا توافُقُ النزعة الفطرية المعاصرة مع روح المذهب المادي كالسلوكية و الاختزالية المادية.


بعد هذا العرض يتضح لنا أن هناك رؤيتين أساسيتين لطبيعة الإنسان: الأولى هي الرؤية الثنائية التي تنظر للإنسان على أنه مكون من روح و جسد ، و الثانية هي الرؤية المادية الاختزالية. و كلا الرؤيتين لها تبعاتها المختلفة على الوعي و حرية الإرادة و الأخلاق. و المساهمة التي قدّمها المؤلف هي محاولة إثبات أن هناك رؤيةً ثالثة تتوسط القفزة من الرؤية الاختزالية إلى الرؤية الثنائية. فهو يحاول أن يقدم بديلاً وصفياً "يسمح لنا بالنظر إلى أنفسنا كذوات لها إرادتها الحرة و نظرتها الأخلاقية للعالَم" (ص: 9). و هو إذ يحاول بناء ذلك المنهج الوصفي يستفيد كثيراً من الفيلسوف (فتغنشتاين) و فلسفته اللغوية كما سنرى في الفقرة التالية.


منهج وصفي لاكتساب القواعد الأخلاقية


يهدف المؤلف إلى نقض الأساس الفلسفي للمذهب الفطري ، ولكن ليس من خلال تقديم تنظير فلسفي أو حجاج عقلي قد يأتي من ينقضه –كما يقول- ، بل من خلال تقديم أطروحة وصفية لكيفية اكتساب القواعد الأخلاقية. و هذه الأطروحة الوصفية هي أطروحة (فتغنشتاين) الفلسفية كما قدمها في كتابه (بحوث فلسفية) و التي توضح عمل اللغة و فلسفته فيها. إذن فاكتساب الأخلاق عند المؤلف هو كاكتساب اللغة عند (فتغنشتاين) ، فاللغة هي الوعاء الذي يحمل المعرفة و الأخلاق.


بدأ المؤلف بنقد وصف اللغة بأنها "فكرة مسبقة أو قبلية يجب أن يُناظرَها ما هو موجودٌ في الواقع الخارجي" (ص: 70). و هذا الوصف للغة يختزل دورَها في مجرد تسمية الأشياء ، و يُسبّب ميلاً للتركيز على جانب واحد من جوانب اللغة هو جانب التسمية هذا ، ومن أسباب هذا الميل و الاختزال للغة هو بعضُ الفلسفات القديمة التي انشغلت بالبحث عن "جوهر" الأشياء و الظواهر: "إن شعورَنا العام بالحاجة إلى ’النفاذ إلى صميم الظاهرة’ يجعلنا نهمل أفقاً واسعاً من النشاط اللغوي الإنساني ، ونركز على عناصر لغوية معينة معزولةً عن كلٍّ مِنْ مجال اللغة و التوظيف الفعلي للغة بين الناس... أما الوصف الصحيح للغة فهي أنها نشاط ثقافي و سلوك متعدد الأهداف بين جماعة معينة" (ص: 71-72). فاللغة ليست نظاماً من الكلمات فقط ، بل هي أيضاً "استدعاءُ نوعٍ معين من استجابات المُخاطَب" (ص: 72) و نحن حين نتخاطب فلا يهمنا ما تشير إليه معاني كلمات خطابنا –فقط- بل نحاول –أيضاً- استدعاءَ سلوكٍ معين. إذن هناك جانبٌ من جوانب اللغة يُعنى بالتسمية و مجرد ربط الألفاظ بالأشياء (كوضع بطاقاتٍ تعريفية على الأشياء) ، وهناك جانبٌ آخرُ أكثرُ أهمية يُعنى بالدور الذي تلعبه الألفاظ في استدعاء سلوكٍ معين. و مطلوبُ (فتغنشتاين) هو ألا نكتفي بالدور الأول ، و أن نهتم بالدور الآخر و النظر إلى السياق الذي يحدث فيه ذلك الدور التداولي للغة.


هذا الوصف يصل بنا إلى نتيجتين رئيستين: الأولى هي أن "اللغة بقواعدها المعرفية و الأخلاقية تُكتَسَبُ داخل النشاط البشري كله ، أي أنها عملية اجتماعية ، و من ثم الممارسة الحياتية هي التي تحدد مضمون التسمية" ، و الثانية هي أنه لا بد من تنوّع الأساليب اللغوية تبعاً لتنوّع حاجات النشاط البشري و غاياته ، و "لا بد من وجود أنساق لغوية متعددة" منها النسق الأخلاقي (هذا الفعل حسن). و يُقرّ هذا الوصف بأن هناك "قواعد بشرية معرفية و أخلاقية متمثلة في اللغة ، و أننا نستخدم اللغة بطريقة اطّرادية ، و لا نخرج عن القواعد اللغوية التركيبية و الدلالية إلا قليلاً كما في اللغة الشعرية" (ص: 82).


ما الفرق بين هذا المنهج الوصفي و بين المذهب الفطري أو الاختزالي المادي؟ الفرق هو أن كلا المذهبين يلغي الفاعلية و حرية الإرادة الإنسانية بشكل أو بآخر "و هو أمر مخالف تماماً لحِسّنا المشترك الذي يصف الإنسان من حيث الرغبات و الاعتقادات ، و يراه حراً في إرادته بمعنى ما ، و يحمله مسؤولية أخلاقية بصرف النظر عن إرثه الجيني" (ص: 86). أما أطروحة المؤلف الوصفية فلا تلغي فاعلية الإنسان و حريته في الإرادة.


إشكالات حول المنهج الوصفي المقترح


من أبرز نتائج المنهج الوصفي الذي قدمه المؤلف أن القواعد الأخلاقية في المجتمع تُورَث من ضمن موروث ثقافي سلوكي ، و نتعلمها من المجتمع ، و أن المجتمع هو المُسوِّغ لتلك القواعد ، و لكن الإشكال الرئيس هنا هو أن المؤلف يُقر أيضاً في غير موضع أن تلك القواعد ليست ثابتة و يمكن أن تتغير. فهو يقول في معرض التفريق بين منهجه الوصفي و بين النموذج التشومسكي: "لكنه يختلف عن النموذج التشومسكي في أمر مركزي ، و هو أن لغتنا ليست نسقاً ثابتاً" (ص: 82) أي أنه يمكن لتلك القواعد أن تتطور و تتغير. و يقول: "ما هو أصل القواعد المطّردة؟ عند المذهب الفطري البرمجي بِنى دماغية معينة تؤسس هذه القواعد...و صحيح أن هذه البنى تضمن للإنسان ثباتَ القواعد و عدم الاختلاف في رؤية العالَم إلا أنها تُفقِد حاملَها الفاعلية الحقيقية". فهو يرفض المذهب الفطري –الذي يضمن ثبات القواعد- لأنه يرى أنّ تبنّي هذا المذهب يُلغي "فاعلية" الإنسان ، و كأنه لا توجد خطوة تتوسّط بين القول بالفطرية البرمجية "الجبرية" و منهجه الوصفي الذي يقترحه. إذ لا يلزم من ثبات القواعد إلغاءُ حرية الإرادة أو "الفاعلية". و هناك فرق بين الفاعلية في التصرفات و الأفعال و الفاعلية في "إنشاء" القواعد و تغييرها و هي فاعلية أعم و أشمل ولكنها قد تُفضي بنا إلى النسبية في الأخلاق و هذا هو الإشكال الرئيس هنا. فأنت ترى أن المؤلف لكي يهرب من "برمجية" المذهب الفطري و يثبت للإنسان فاعليةً ما رفض المذهب الفطري بالكلية و قفز إلى إثبات فاعلية مطلقة في منهجه الوصفي لا تمنع من تغيّر القواعد. و كان الأحرى أن يثبت شيئاً من الفطرية بحيث نضمن معها ثبات القواعد الأخلاقية و يُثبت –في نفس الوقت- حريةً للإنسان في تصرّفه و أفعاله ، و لا تعارض هنا و هذا أكثر اتساقاً مع الموقف الطبيعي ، بل و هذا ما تدعمه نتائج بعض دراسات علم نفس النمو عند الرُّضّع.


إن المؤلف يعطي المجتمع سُلطة شبه مطلقة ، فهو لا يكتفي بإثبات دور المجتمع في "تأمين" القواعد الأخلاقية و المحافظة عليها و توارثها وتعليمها للطفل الذي ينشأ في ذلك المجتمع ، بل يتجاوز ذلك إلى إثبات دورٍ أكثرَ فاعلية بحيث يشارك في التأثير في تلك القواعد و تغييرها: "إذن ما هو مصدر القواعد عند فتغنشتاين؟ يرى فتغنشتاين أن القواعد الأخلاقية و المعرفية قائمة على صورة حياة يرثها البشر ، و هي التي تعين المركب الكامل لسلوك و نشاط المجتمعات الإنسانية ، و هي ليست نظاماً بأي معنى ، أي هي ليست بناء مغلقاً من القواعد ، بل كثيراً ما تقوم المجتمعات بتغييرات كبيرة في هذا المركب ، فالأفراد متفاعلون مع هذا المركب ، فهم يؤثرون في تلك القواعد بمرور الزمن" (ص: 90-91). و لا يوضح المؤلف طبيعة القواعد الأخلاقية التي يمكن أن تتغير ، ولا حقيقة هذا التغيير ، و لا الموقف من ذلك التغيير. فلا يوجد في هذا المنهج الوصفي –بحسب طريقة عرضه هذه- ما يمنع من تغيّر القاعدة الأخلاقية حول الاغتصاب –مثلاً- بحيث يتغير الحكم من تجريمه إلى تسويغه. و هذه ليست مبالغة ، فالرِّقُّ و العبودية –مثلاً- كانت سائغة في المجتمعات البشرية في وقتٍ مضى ، و لكنها الآن تعتبر غيرَ أخلاقية. فما الذي يمنع من حصول هذا التغيّر لقواعد أخلاقية أخرى بحسب هذا المنهج الوصفي؟


فطرية الأخلاق


السبب الذي حدا بالمؤلف إلى رفض فطرية النموذج التشومسكي هو أن هذا النموذج يقتضي أن البِنى الفطرية الدماغية هي سبب امتلاكنا أفكاراً معرفية و أخلاقية ، و هنا يفرّق المؤلف بين كون تلك البِنى أو القدرات البيولوجية هي السببَ في امتلاك تلك الأفكار –أي هي ما تفرض الأحكامَ الأخلاقية علينا- و بين كونها شرطاً ضرورياً مسبقاً –فقط- لاكتساب اللغة ، فيكون اكتسابُ اللغة و القواعد الأخلاقية حينها "أمراً ممتداً زمنياً" (ص:83) و يحصل بمواصلة الاختلاط في المجتمع و التعلم منه. و هذا التفريق معقول ، و لكن هل هو صحيحٌ بإطلاق؟ هل صحيحٌ أن قدراتِنا البيولوجية لا تفرض علينا قيماً أخلاقية معينة؟ إن أفضل وسيلة للإجابة عن هذا السؤال هي النظر في نتائج علم نفس النمو عند الأطفال الرضع الذي لم يكتسبوا اللغة بعدُ.


في مقالٍ عنوانُه The Moral Life of Babies (حياة الأطفال الأخلاقية) ذكر الكاتب عدة تجارب شارك فيها مع باحثين آخرين هدفُها البحث فيما إذا كان للأطفال حس أخلاقي أم لا. وجدوا أن لدى الأطفال إحساساً بالعدالة. ففي إحدى التجارب حيث تُعرض فيها ثلاثةُ دمى تلعب بكرة ، و تمرر كل دمية الكرة إلى التي بجانبها بعد اللعب بها ، ثم في النهاية تفرّ إحدى الدمى بالكرة. بعد فترة يُؤتى بتلك الدمية الشقية التي فرّت بالكرة مع أخرى بريئة و يُوضع أمام كل واحدة من الدميتين حلوى ، ثم يُطلب من الطفل أن يأخذ الحلوى. وجدوا أن كل الأطفال أخذوا الحلوى من أمام الدمية الشقية التي فرّتْ بالكرة ، بل ربما مدّ بعضُ الأطفال يدَه ليلطم تلك الدمية الشقية عقاباً لها. و في تجارب أخرى وجدوا أن الأطفال لديهم إحساس بالإيثار أيضاً. و هذه تجارب أُجريت على رُضّع بعضهم لم يتجاوز عمرُه الستة أشهر أو العشرة أشهر. وهكذا ترى أن القول بفِطرية بعض الأخلاق له وجه من الصحة و لا ينبغي أن يُرفض بالكلية.


أنا لا أقرر أن الأخلاق فطرية بإطلاق ، و لا ينبغي أن يُفهم أن القول بفطرية الأخلاق يلزم منه ثباتُ المعايير الأخلاقية عند كل المجتمعات ، فهذا خلاف الملاحَظ و المشاهَد ، ففي المقال الذي أشرت إليه إحالةٌ إلى دراسةٍ نُشرت في مجلة Science العلمية لأحد علماء النفس خلص فيها بعد دراسة خمسة عشر مجتمعاً مختلفاً إلى أن المجتمعات تتفاوت في بعض المعايير الأخلاقية كالميل إلى معاملة الغرباء بلطف –مثلاً- و معاقبة الظلم ، وأن هذا التفاوت راجع إلى عوامل كحالة الاقتصاد في المجتمع و غيرها من العوامل. بل أقرر أن هناك مفاهيمَ أخلاقية أساسية مشتركة بين كل المجتمعات كالعدالة و الوفاء ، و أن هناك قانوناً أخلاقياً متأصلاً في النفس البشرية يُرشد الضميرَ عند الحكم بالحق أو الباطل في بعض المواقف الأخلاقية ، و أن هذا الاشتراك بين المجتمعات يصعب تصوُّره من دون القول بفطرية –و لو جزئية- للأخلاق.


ملاحظات أخرى


إن من أهداف الكتاب هو نقدَ المذاهب المادية و علم الأعصاب في اختزالها للأخلاق ، و لكن مع ذلك فإني لا أشعر بأني وجدت نقداً حاسماً يقضي على المذهب المادي من أصوله. كان أسلوب المؤلف في نقض الأسس الفلسفية للمذاهب المادية هو في إعطاء رؤية بديلة و تقرير أنه إذا صحت تلك الرؤية البديلة فهذا يعني بالضرورة بطلان الأسس الفلسفية لتلك المذاهب ، و هذا مفهوم ، و لكن أرى أن هناك فرصة لإيراد مزيد من الحجج الناقدة للمادية.


من أبرز الحجج الناقدة للمادية هي حجج فيلسوف اللاهوت (ألفن بلانتنجا) [هنا]. مفاد تلك الحجة أنه -وفقاً للمذهب المادي- يمكن لاعتقادَيْن أن يكون لهما نفس الخصائص العصبية الفسيولوجية حتى لو كان الاعتقادان متناقضَيْن. يقول (بلانتنجا): “مثلا يمكن لاعتقادي بوجود مشروب كحولي في الثلاجة ، مع رغبتي في تناول ذلك المشروب ، أن يتسبب في نهوضي من أريكتي المريحة و المشي بتثاقل نحو الثلاجة. و لكن هنا النقطة المهمة: لقد تسبب الاعتقاد في وقوع الفعل بفضل خصائصه المادية العصبية الفسيولوجية…و ليس بفضل المحتوى الخاص بالاعتقاد [و هو] أن هناك مشروباً كحولياً في الثلاجة”. حسناً ، ما المشكلة في ذلك؟ يكمل (بلانتنجا) و يقول: “لو كان لهذا الاعتقاد محتوى مختلف كلياً -كالاعتقاد بعدم وجود مشروب في الثلاجة- و لكن بنفس الخصائص العصبية الفسيولوجية ، لتسبب أيضاً في حصول نفس ذهابي إلى الثلاجة. هذا يعني أن محتوى المعتقد ليس سبباً للسلوك”. إذن لو كانت الرؤية المادية صحيحة فإنه يمكن لاعتقادات كثيرة مهما كان فحواها -حتى لو كانت متناقضة- أن تسبب نفس السلوك ما دام أن لتلك الاعتقادات نفس الخصائص العصبية الفسيولوجية ، و هذا في غاية البطلان!


قبل أن أختم أود التنبيه إلى احتمال أن تلك الإشكالات قد تصبُّ في مواضيع خارج هدف الكتاب. فهدف الكتاب قد لا يتجاوز تقديم رؤية بديلة تحررنا من الرؤية الثنائية (روح و جسد) و الرؤية الاختزالية المادية ، و لكن أقول إنه حتى لو كانت تلك الإشكالات خارج مجال البحث فالسؤال باقٍ حول عدم توسيع مجال البحث و تضمين تلك المواضيع فيه لأهميتها. فعرض المنهج الوصفي المقترح هكذا يُثير أسئلةً أكثرَ من تلك التي يجيب عنها.

 

 

Join