الذاتية في العلم
هذه الخاطرة تعليق على اللقاء المنشور في التغريدة أدناه:
سأنظر للموضوع من زاوية العلاقة بين الفرضية و الملاحظة في الممارسة العلمية. فقد لاحظ فيلسوف العلم كارل بوبر (حسب ما أذكر) أن الملاحظات أو المشاهدات من دون فرضية تكون غير مفيدة أكثر من فائدة التوثيق العادي الذي لا ينتج علماً جديداً. و هذا دليل على ضرورة أن يسبق الملاحظة فرضية توجهها.
المشكلة أن وضع الفرضيات يتأثر بخلفية الباحث الثقافية و الاجتماعية و النفسية. فحتى في أكثر التجارب أو البحوث موضوعيةً –كما قد تبدو للبعض- فإنك لا بد أن تجد شيئاً من ذلك التأثير الذي يهيمن على العالم قبل التجربة و أثناءها من دون أن يشعر.
فمثلاً: تخيل تجربة يريد العالم فيها أن يقارن بين دقة أو قوة القطع بين الليزر و آلة معدنية مثلاً. سيفكر صاحب التجربة بمتغيرات لملاحظتها ودراستها مثل زاوية القطع و شدة الضغط و الحرارة و نوع الليزر أو المعدن أو غيرها من المتغيرات ، و ستجده تلقائياً و من دون تفكير يستبعد متغيرات يراها لا علاقة لها بموضوع التجربة مثل مالك الشركة التي اشترى منها أدوات التجربة أو حالة الطقس أو غير ذلك.
هذا الاستبعاد لم يحصل لسبب موضوعي أو عقلاني ، أي لم يدرس صاحب التجربة تلك المتغيرات التي استبعدها فيكتشف ألا تأثير لها على كيفية القطع ليعلم بعدها أن هذه المتغيرات لا علاقة لها بموضوع التجربة و بالتالي يسوغ له استبعادها. و إنما حصل هذا الاستبعاد التلقائي نتيجة للخبرة الحياتية السابقة التي جعلت ذلك الاستبعاد أمراً بدهياً بالنسبة له. و لو تخيلنا مخلوقاً فضائياً يزور صاحب التجربة و يحدثه عن تلك التجربة قد لا يبدو له أن هذا الاستبعاد أمر بدهي لأن خلفية هذا المخلوق الفضائي الثقافية ستكون مختلفة تماماً. و من هنا يتضح الأثر الثقافي و الاجتماعي على الممارسة العلمية.
لو طبقنا هذا الكلام على طريقة استدلال هذا الطبيب الفاضل لوجدنا أثر بعض العوامل الذاتية على بحثه. فإني وجدت أن استدلاله قائم على التحليل الكمي الذي وجد من خلاله أن الشيخ السعدي في مقالته الأصلية عن مسألة التبرع بالأعضاء = وجد أن الشيخ قد خصص ما يقارب 57% من مقالته للحجج المؤيدة للجواز بالتبرع في حين أنه لم يخصص سوى 23% لحجج المانعين. هذا بالرغم من أن الشيخ صرح أنه واقف على الحياد في هذه المسألة و أنه لم يصرح باختياره الجواز. و لكن الباحث رجح ميل الشيخ للجواز بقوله "ونحن نعلم الآن أن الرأي الذي يمنع التبرع كان هو الرأي السائد إلى وقت قريب بين العلماء في السعودية، أما في ذلك الوقت فليس عندنا ما يدل على أن أحدا من العلماء السعوديين قبل الشيخ ابن سعدي قد طرَق المسألة، فضلا عن أن يكون له رأي فيها." و لكن الإفاضة في بيان أدلة رأي ما –كما أفادني أحد طلبة العلم- قد يكون له سبب آخر غير الميل مثل الموازنة بين الأقوال خاصة إذا كان هناك غلبة لأحد الرأيين من حيث عدد القائلين به و هذه كانت الحال في مسألة التبرع بالأعضاء كما قال الباحث نفسه حيث اعترف أن المنع كان هو الرأي السائد إلى وقت قريب.
فهل حب الطبيب الفاضل للشيخ رحمه الله له أثر في توصله لنتيجة بحثه؟ خاصة و أن التبرع بالأعضاء له جاذبية أخلاقية في قيم هذا العصر. فالملاحظة التي شاهدها -أعني تخصيص الشيخ السعدي ما يقارب 57٪ من بحثه للحجج المؤيدة للجواز- يمكن أن يوجهها أي شخص كيف شاء ، أي أن هناك أكثر من فرضية ممكنة قد تناسب هذه الملاحظة غير فرضية ترجيح الشيخ للجواز.