كتاب
Adaptive Markets
انطباع
تسعى النظرية الاقتصادية التقليدية إلى إيجاد الحل "الأمثل" و "العقلاني" لأي ظرف اقتصادي أو مالي. تقابلها النظرية السلوكية التي تقول إن هذا الحل غير متحقق بسبب وجود تحيزات إدراكية تمنع من تحقق ذلك الحل. ترد النظرية التقليدية بأن غاية تأثير تلك التحيزات أن تسبب انحرافاً مؤقتاً ، و أن تلك الانحرافات عن الحالة المثلى للأسواق مثلاً ليست إلا حالات شاذة سرعان ما تزول و ترجع الأمور إلى الوضع المثالي. و لكن السلوكيين يردّون بأن تلك التحيزات تحدث بصورة منتظمة و بشكل يتكرر باستمرار. و يستفيد السلوكيون من نتائج علم النفس و الأعصاب لبيان أن تلك التحيزات متأصلة في النفس البشرية بل و لها تفسيرات فسيولوجية أيضاً ، و يستفيض المؤلف في بيان تلك التفسيرات.
يرى المؤلف أن السلوكيين ما زالوا لم يأتوا بنظرية متكاملة ، و يحاول في هذا الكتاب التوفيق بين النظرية التقليدية و اعتراضات السلوكيين عليها بالاعتماد على أطروحة قديمة ل Herbert Simon ، و هو اقتصادي تحول إلى البحث في مجالات أخرى بعد أن تعرضت أطروحته لنقد شديد من اقتصاديي زمانه و لم تحظ أطروحته بقبول واسع في مجتمع الاقتصاديين. كان Simon مهتماً بعملية اتخاذ القرار في المنظمات و لاحظ أن "الحل الأمثل" الذي يسعى إليه الاقتصاديون التقليديون لا يمكن الوصول إليه بسبب التعقيد الشديد للعوامل التي تؤثر في ذلك الحل. فتعدد العوامل أو المتغيرات ، ثم تعدد الخيارات لكل عامل يفضي في النهاية إلى وجود عدد كبير جداً من الحلول الممكنة بحيث يستحيل على العقل البشري أن يعرف الحل الأمثل من بين تلك الحلول. و يقترح Simon أن البحث يجب أن يكون عن حل مناسب بحسب القيود التي يفرضها الظرف الحالي الذي يتطلب اتخاذ القرار ، و لهذا تُعرف أطروحته ب Bounded Rationality أو العقلانية المُقيّدة. و لكن انتُقدت أطروحته نقداً سبّب ضعفَ القبول بها. خلاصة ذلك النقد: كيف لنا أن نعرف أن حلاًّ ما مناسبٌ أو جيّد بما فيه الكفاية من دون معرفة الحل الأمثل؟ فمقياس الجودة متعذّر من دون معرفة الحل الأمثل ، وإن كنا سنبذل الجهد و الوقت لمعرفة الحل الأمثل لكي نقيس جودة الحل المناسب ذاك فلن يكون لذلك الحل المناسب جدوى و قد عرفنا الحل الأمثل.
يرى المؤلف أنه ليس بالضرورة أن نعرف الحل الأمثل ، فذلك الحل أحياناً تستحيل معرفته أصلاً ، ثم يقدم أطروحته الرئيسة و هي فكرة "التكيّف" و تهذيب السلوك المالي والاقتصادي باستمرار و مراجعته و "التعلم" من الأخطاء و الخبرة السابقة. يستخدم فكرة "التطور" لتوضيح تأثير البيئة و الظروف المحيطة ليقرر أن التقسيم التقليدي: عقلاني/غير عقلاني تقسيم خاطئ ، وأن كل قرار -مهما بدا غير عقلاني- قد يوجد ما يبرره إذا نظرنا للظروف المحيطة به ، و أننا سنتخذ قرارات ليست مثالية خاصة في بيئة (كالسوق مثلاً) تتغير باستمرار. لا يمكن لشخص أن يعرف مدى أمثليّة طريقته (أو نموذجه أو أسلوبه..إلخ) تحت نظرية التكيف هذه ، بل يجب على ذلك الشخص أن يعدّل طريقته بحسب نتائج طريقته فإن كانت النتيجة إيجابية فهذا يعزّز من طريقته ، وإن كانت النتيجة سلبية فهذا يتطلب التعديل على طريقته ، و هكذا.
المؤلف يستخدم نظريته للتفسير على مستويين: 1- مستوى عام بحيث ينظر للأسواق و المستثمرين –أفراداً و مؤسسات- بشكل كلي و من زاوية السياسات العامة و التنظيم ، و 2- مستوى فردي بحيث ينظر للفرد و سلوكه و استراتيجياته و قراراته. اهتمامه بالمستوى الأول أكبر و لديه حشد من الأفكار و المقترحات في هذا الشأن ، أما المستوى الفردي فيعرض له في مواضع متفرقة فقط. و كثيراً ما يستخدم نظرية التطور كاستعارة ليوضح القصور التفسيري لنظرية كفاءة الأسواق ، و فعالية نظريته نظرية الأسواق المرنة في تفسير كثير من الأحداث التاريخية و التغيرات التي طرأت على الأسواق. فكرته الأساسية هي أن الافتراضات التي تقوم عليها نظرية كفاءة الأسواق (كعقلانية المستثمرين ، و استقرار ظروف السوق ، وكفاءة السوق ، بمعنى أن هناك توازنا مستمراً بين العرض و الطلب ، وافتراضات تقنية أخرى كالعلاقة الإحصائية بين العائد و المخاطرة وأنها ثابتة بغض النظر عن تغير ظروف السوق.. إلخ) هي افتراضات غير صحيحة و أن السوق تؤثر فيه قوى متغيرة و جديدة باستمرار –خاصة في ال15 سنة الأخيرة- و أن حالة "الكفاءة" تزيد و تقل بسبب تأثير هذه القوى و أنه كلما قلت كفاءة الأسواق زادت فرص "التغلب على السوق" بتحقيق عوائد أعلى من متوسط عائد السوق و أن الطرق أو الاستراتيجيات أو النماذج التي تستغل تلك الفرص لا بد أن تتغير و تتكيف و تتجدد تبعاً لطبيعة تلك القوى التي خلقت حالة عدم الكفاءة في السوق. من هنا نفهم معنى "المرونة" أو "التكيف" في هذا النظرة الجديدة للسوق.
أسهب المؤلف إسهاباً طويلاً في عرض مقدمة عن نظرية التطور و بعض نتائج علم النفس و العلوم العصبية التي تفسر بعض جوانب السلوك الإنساني التي لها تأثير على السلوك المالي والاقتصادي للفرد ، و احتلّت تلك المقدمة جزءً كبيراً من النصف الأول للكتاب ، و قد كنت أستغرب هذا الإسهاب الطويل ، و لكن زال العجب بعد إدراك أن المؤلف يميل إلى اتجاه قديم في الأدبيات المالية يرى أن علوم الاقتصاد و المالية يجب أن تحاكي علوم البيولوجيا ، على عكس الاتجاه السائد الذي تأثر بالعلوم الفيزيائية و أُغري برصانتها فأراد أن يؤسس قوانين اقتصادية رصينة وشاملة كقوانين نيوتن –مثلا- والتي –على قلتها- تفسر أغلب الظواهر الطبيعية التي نشاهدها. هذا الاتجاه الفيزيائي انتهى به المطاف إلى افتراضات شديدة التقييد –كافتراض العقلانية التامة- بحيث أصبحت تطبيقات تلك القوانين الاقتصادية/المالية جزئية ، و لا تعطي تفسيراً شاملاً بل تفسر حالات خاصة فقط.
في نظري أن في استخدامه لنظرية التطور و إسهابه الطويل فيها = تكلفاً غير ضروري. أتفهم استحضار نظرية التطور لتوضيح بيولوجيا الدماغ و ما إلى ذلك ، أما توضيح فكرة التكيف مع البيئة و الظروف البيئية المتغيرة فلا ، بل الأدق أن يكون المرجع هو علم البيئة Ecology كما أشار هو في غير موضع و إن كان علم البيئة فرعاً من علوم البيولوجيا. ثم إن تطبيق نظريته على المستوى الفردي لا صلة له بنظرية التطور المعروفة ، ففكرة التكيف و التعلم و تطوير السلوك هي أقرب ما تكون لما يُسمى ب Reinforcement Learning أو التعلم التعزيزي و هي إحدى خوارزميات التعلم الشهيرة. صحيح أن الخوارزميات التطورية تعتبر واحداً من أنواع خوارزميات التعلم المتعددة ، و لكن الخوارزميات التطورية هذه تختلف عن نظرية التطور المعروفة اختلافاً جوهرياً يتمثل في وجود ما يُسمى ب Fitness Function ، فهي خوارزميات "موجهة" على عكس التطور البيولوجي المعروف بأنه "أعمى".
أما إذا أردنا تطبيق نظريته على المستوى الكلي بالنظر للأسواق باعتبارها "كالبيئة" ، و المؤسسات التشريعية و المستثمرين –أفراداً و مؤسسات- باعتبارهم أنواعاً مختلفة من "الكائنات الحية" ، و الأحداث الاقتصادية و غير الاقتصادية المؤثرة في الأسواق (مثل الأزمات المالية ، أو التشريعات التنظيمية الجديدة...إلخ) باعتبارها كالظروف البيئية التي تسبب تفاعلات معقدة بين تلك الكائنات تغير من سلوكها بل و قد تؤدي إلى انقراض بعضها مثلاً = هذه النظرة ليست جديدة بالنسبة لمن لديهم اطلاع على طرق نمذجة النظم المعقدة Complex Systems. شخصياً لدي اطلاع سابق على طرق مثل Agent-Based Modeling و التي تحاول نمذجة النظم بافتراض أن تلك النظم تحوي أنواعاً من الفاعلين الأحرار الذين لديهم سلوك محدد نستطيع نمذجته رياضياً ، و أن سلوك كل نوع يختلف عن الآخر ، و لكنهم يشتركون في وجودهم في بيئة واحدة لها حدود معروفة. و الهدف من هذه النمذجة هو معرفة الحالة للكلية للنظام بعد إحداث تغييرات في تلك البيئة ، و معرفة تأثير تلك التغيرات على سلوك الفاعلين و غير ذلك. الجديد بالنسبة لي هو تطبيق كل ذلك على الأسواق المالية.
في اعتقادي أن النظرية التي يحاول تقديمها المؤلف ليست نظرية بقدر ما هي إطار نظري بديل عن نظرية كفاءة الأسواق. هذا الإطار يوجّه التفكير للفاعلين في الأسواق المالية كالمؤسسات التشريعية لاستحداث أنظمة و لوائح مثلاً ، أو المستثمرين لابتكار منتجات استثمارية ، و غيرهم. هذا الإطار ما زال عاماً و شاملاً و ينقصه الكثير لكي يصبح نظرية متماسكة تستطيع تقديم تنبؤات محددة و دقيقة.