كيف تشكلنا الولادة 

وجدان الصعيدي


خلال الأسابيع الماضية قمت بحصر قراءاتي حول موضوعين: الأول/ الفلسفة؛ وذلك لتحسين معرفتي العامة خلال فترة الصيف، أما الثاني فكان بحكم الظروف العائلية المحيطة بي، وهو الولادة! إلا أن تداخل القراءات دفعني بالتفكير حول مفهوم الولادة في إطار الفلسفة.ـ
 يبدأ البشر حياتهم بالولادة، وتنتهي بالموت، نحن محدودين بهاتيين الطريقتين. ـ
من الناحية التاريخية ركز الفلاسفة الانتباه على طريقة واحدة: الموت، ولكنهم قالوا القليل عن الولادة وكيف يشكل ذلك وجودنا بأكمله.

 
ترجع الآراء الواردة في هذا المقال بشكل أساسي للكاتبة وأستاذة الفلسفة " اليسون ستون" من كتاب: ـ
Being Born: Birth and Philosophy (Studies in Feminist Philosophy)
 

بالنسبة للإنسان فإن الولادة تعني البدء في الوجود في وقت معين، والقيام بذلك عن طريق الحمل ثم الخروج من رحم الأم، وبذلك نأتي إلى العالم بجسم معين، وفي مكان معين. ـ
 
بسبب عجز الأطفال والرضع، وحاجة الأطفال المطولة للرعاية والتعليم؛ نبدأ حياتنا معتمدين تمامًا على الأشخاص الذين يعتنون بنا جسديًا وعاطفيًا. نصبح أكثر استقلالية مع مرور الوقت، ولكن ليس بشكل كامل أو دائم. ما زلنا جميعًا نعتمد على الآخرين، فيما يتعلق بوسائل عيشنا ولغتنا وحاجاتنا الاجتماعية الأساسية.ـ
بمجرد أن نتذكر أننا نبدأ حياتنا كرضع، تظهر التبعية على أنها أساسية أكثر من الاستقلال - يحدث الاستقلال على خلفية من التبعية وليس العكس. ـ
 
بسبب اعتمادنا الأولي فإن علاقاتنا المبكرة مع من يقوم بالرعاية، لها تأثيرات تكوينية ضخمة علينا. إنهم يشكلون أنفسنا: أنماط ردود أفعالنا العاطفية وعاداتنا وصفاتنا، والشخصيات التي نكون عليها. ـ
يكون هذا أشبه بحجر الأساس، إلا أنه يمكننا بالطبع أن نتأثر بالعلاقات والتجارب اللاحقة. لكننا في الغالب منفتحون على العلاقات الجديدة بطرق شكلتها العلاقات السابقة. ـ
عندما نفكر في الولادة إذن نرى أن العلاقات مع الآخرين تجعلنا أفرادًا - فذاتيتنا الفردية تنشأ ضمن خلفية من العلاقات.

 
عند الولادة يأتي كل فرد في وضع فريد في العالم يتكون من مزيج فريد من الظروف التاريخية، والاجتماعية، والجغرافية والعائلية.ـ
تؤثر حالة الولادة الأولية للمرء على كل حالة حياة لاحقة يأتي فيها ، بما في ذلك عن طريق التأثير على أي خيارات يتخذها استجابة لهذه المواقف. تتدفق جميع المواقف المتتالية للمرء خلال حياته، ولكن بشكل غير مباشر منذ ولادته. ـ
لقد ولد كل منا في وضع فريد خاص به، لذا تُعطى مواقف الولادة لدينا ولا يتم اختيارها، وبمجرد أن نولد نبدأ في تشرب الثقافة من حولنا.
 لذلك أولاً وقبل كل شيء، نحن ورثة لثقافة و تاريخ العالم. قد نطور قدراتنا على استجواب وانتقاد وتغيير ما تلقيناه، لكن هذا يحدث على أساس الاستلام المسبق. ـ

قد يتساءل الفرد : "لماذا أنا أنا؟" أو: "لماذا هذه هي الحياة التي أحياها ولا حياة أخرى؟" تقدم التقاليد الدينية الشرقية والغربية إجابات مختلفة، على سبيل المثال بالإشارة إلى أرواحنا الخالدة كما في المسيحية، أو دورات ولادة جديدة كما في الهندوسية. ـ


يمكننا أن نشرح سبب الحمل بالجسم المعين الذي ولدت به، لأسباب علمية يمكن إثباتها، لكن هذا لا يفسر لماذا هذا الجسد هو الشخص الذي أقود وأختبر حياته مباشرة، من الداخل!. ـ

هذه مجرد حقيقة ولأنها لا يمكن تفسيرها ، فإن بُعدًا من الغموض يعم ​​الوجود ككل. هذا اللغز يمكن أن يولد القلق - أحد أشكال القلق عند الولادة.

الكثيرعن القلق بشأن الموت، لكن الولادة تثير أيضًا مخاوف وصعوبات وجودية

 مارتن هايدغر

الأيام الأولى

قد يبدو محيرًا أننا وصلنا إلى الوجود الذي لم يكن هناك من قبل. وقد يكون من المثير للقلق أننا لا نستطيع أن نتذكر الولادة، أو في الواقع نتذكر الطفولة المبكرة، الظاهرة المعروفة باسم " فقدان الذاكرة عند الأطفال ". ـ
 
هذا النسيان هو نتيجة للتطور المرحلي لذاكرتنا وأنظمتنا المعرفية خلال مرحلة الطفولة. بينما نرتقي إلى أشكال أكثر تقدمًا من الذاكرة، نفقد الوصول إلى الذكريات السابقة الموضوعة في أشكال أقل تقدمًا. ـ

 في المقابل، فإن تطورنا المعرفي المرحلي هو نتيجة للولادة: لقد ولدنا غير ناضجين للغاية وغير متشكلين ولكننا نطور في النهاية للوصول إلى مستويات عالية من التطور المعرفي.ـ 

ومع ذلك فإن السنوات الأولى التي ننساها هي الأكثر تكوينًا بالنسبة لنا، لذلك ننتهي بالكثير من حياتنا العاطفية وردود أفعالنا كألغاز لنا. ـ
ـ " لماذا نقع في حب الناس ونفقدهم؟ لماذا هذه الاغنية تدفعني الى البكاء؟" فقدان الذاكرة الطفولي يتركنا غرباء عن أنفسنا من نواحٍ مهمة وهذا بحد ذاته أمر مقلق.

 " إن الولادة هي سمة أساسية في إشكالات الفلسفة وليست تافهة أو عرضية، فالحياة والوجود البشري بشكل عام له الشكل الذي هو عليه فقط لأننا ولدنا"

Join