العلاج المعرفي
والاضطرابات الانفعالية
آرون بيك
ترجمة عادل مصطفى
ملخص الكتاب
ينطلق الكتاب في نصفه الأول من ملاحظة أن المدارس النفسية الثلاث الكبرى: الطب النفسي العصبي، ومدرسة التحليل النفسي، ومدرسة العلاج السلوكي، على تباين واختلاف في منطلقاتها، أجمعت على نتيجة مفادها أن “المصاب باضطراب انفعالي هو ضحية قوى ومؤثرات لا يتبينها ولا يملك التحكم فيها”، واتفقت على أن “مصدر الاضطراب يكمن وراء وعي المريض وأنه يفعل فعله فيه دون علمه ودرايته”. أنتج هذا بدوره غضا واستهانة بوعي المريض وأفكاره وأطره الفكرية التي يستخدمها في تحليل أحداثه اليومية، وتجاهلا لذلك كله حين دراسة الاضطرابات الانفعالية ومصادرها . وبالتالي نرى أنها "استهانت بقدرة المريض على فهم ذاته بذاته وعلى حل مشكلاته بنفسه بما لديه من ملكة العقل" وجعلته يعتقد أنه "عاجز عن علاج نفسه وأن عليه أن يلجأ إلى معالج محترف في كل ما ألم به من شديدة".
يحاول الكتاب مساءلة هذه النتائج ومآلاتها، و استكشاف وتأسيس مدرسة تقوم على الفكرة التالية: وعي المريض وأفكاره التي يحلل بها أحداثه اليومية الاعتيادية واستبطاناتُه وخيالاتُه مصدر مهم يؤخذ بعين الاعتبار حين دراسة أي اضطراب انفعالي. بل هو المصدر الأهم والجدير بالبحث والتنقيب.
يقترح المنهج المعرفي هذا النموذج في النظر للاضطرابات الانفعالية بديلا عن نماذج المدارس الأخرى:
منبه/مثير => معنى شعوري => انفعال
هذا المعنى الشعوري يلصقه المرء بالحدث نتيجة مداولات فكرية داخل النظام الاعتقادي الذي يوجه ويحكم كل إنسان؛ إذ كل إنسان محكوم بقواعد عامة وخطوط عريضة غير منطوقة ترسخت فيه خلال نموه وتنشئته واندمجت في نظامه المعرفي، تحدد توقعاته وأنماط استجاباته العامة. وهذا المعنى الملصق بالحدث هو مايحدد نوعية الاستجابة الانفعالية وحدتها. أو بعبارة أخرى، القواعد الداخلية العامة هي المقدمات الكبرى، والمعاني الملصقة هي المقدمات الصغرى، والاستجابة الانفعالية والسلوكية هي النتيجة.
باقتراحه هذا النموذج، يحول المنهج المعرفي الأنظار إلى حلقة الوصل بين الحدث وبين الاستجابة الانفعالية: أفكارِ المريض واعتقاداته ونظمه الحاكمة. فيصير الاضطراب الانفعالي اضطرابا معرفيا فكريا بالأساس. وتصير مسألة تصنيف الاضطرابات الانفعالية هي مسألة تصنيف ما تنطوي عليه من اضطرابات وتشوهات فكرية. فبناء على هذه الرؤية، لكل اضطراب انفعالي محتوى فكري ومعرفي يميزه عن غيره، أو ما يسميه الكاتب أحيانا بثيمة فكرية. وقد تكون هذه الثيمة الفكرية من التجذر والترسخ والعمق بمكان، بحيث تصبح صعبة الاجتثاث، بل صعبة الملاحظة.
ثم يقدم الكتاب مفهوما آخر، وهو مفهوم المجال الشخصي. يعرفه الكاتب بأنه مجموعة الأشياء التي يرى المرء “أنها تتصل به بشكل خاص” سواء كانت معنوية أو غير معنوية. “في المركز من هذا المجال الشخصي يقع مفهوم الشخص عن ذاته وسماته الشخصية وأهدافه وقيمه”. لكل منا مجاله الشخصي الذي لا يقبل المساس به، وبناء على علاقة الحدث بالمجال الشخصي ونوعية تأثيره فيه وفي مايحتويه، تتحدد نوعية الاستجابة الانفعالية وشدتها.
ينطلق الكتاب بعد ذلك في نصفه الثاني مستشكفا هذه الثيمات الفكرية المميزة لكل اضطراب انفعالي، أو قل التشوهات الفكرية المسببة لها، وطبيعة علاقتها بالاضطرابات الانفعالية المختلفة، ويفرد لكل اضطراب من الاضطرابات التالية فصلا مستقلا:
الاكتئاب، القلق، الرهاب والوساوس، الاضطرابات النفسجمية والهستيريا.
ثم يختم بفصلين في مبادئ وتقنيات العلاج المعرفي، يقترح فيهما معاملة الاضطرابات الانفعالية كما اعتاد الإنسان أن يتعامل مع مشاكله في حياته اليومية. ليصبح الالتجاء إلى المعالج في ظل هذه الرؤية هو من قبيل اللجوء إلى من عنده خبرة أوسع في حل هذا النوع من المشاكل لا غير.
تعليقات وملاحظات
أعجبني في الكتاب- وفي المنهج المعرفي بطبيعة الحال- أنه قدم منهجا في التعامل مع الاضطرابات الانفعالية يتواءم مع “الحس المشترك” ويحل إشكالات خلقتها المدارس السابقة له، أورد بعضها:
يخرجنا المنهج المعرفي من دوامة الجبرية، سواء الجبرية الكيميائية المنتصر لها في مدرسة الطب النفسي العصبي، أو الجبرية الميكانيكية الإشراطية، المعبر عنها في المدرسة السلوكية. ويعطي المريض إطارا تفسيريا ديناميكيا لمشاكله متواءم مع حياته اليومية، معطيا إياه بذلك الثقة بنفسه وبقدرته على التعافي وحل مشاكله.
يعطي المنهج المعرفي مساحة أكبر “للحكمة الشعبية” وللدين، بوصفهما مولدّين لأطر فكرية أثبتت قدرتها على التحصين من تشوهات فكرية عادة ماتسبب اضطرابات انفعالية.
يحل إشكالية “علاقة الدين بالاضطرابات الانفعالية”: من جهة أن عبارة مثل “الاضطراب الانفعالي نقص في الدين” تصبح ذات مدلول صحيح ومقبول في سياقات معينة، باعتبار أن التشوهات الفكرية المسببة لهذا الاضطراب أو ذاك ليست من الدين وأن التدين الحق يعصم المرء من الوقوع فيها، وأن المتدين الحق ما كان ليقع في هذا الزلل الفكري على طريقة “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”. كما يخف الحرج في وصف المتدين بأنه مصاب باضطراب نفسي أو انفعالي، باعتبار أنه عرضة للوقوع في الخطأ في الحكم و التقدير، الذي قد ينتج عنه هذا الاضطراب الانفعالي أو ذاك.
الكتاب ممتاز جدا والترجمة جيدة جدا، وقد يحتاج لغير ذي الخلفية المعرفية في مجال علم النفس إلى أكثر من قراءة واحدة لاستيعابه.
لاحظت في الكتاب بعض الارتباك وعدم الاتساق في استخدام بعض المفردات والتوصيفات، لكنها طفيفة ولا تؤثر في التجربة الإجمالية.
تجدر الإشارة إلى أن أول طبعة للكتاب صدرت 1979، ومن ذلك التاريخ تطور العلاج المعرفي كثيرا، إلا أن الكتاب مازال محتفظا بقيمته العلمية بوصفه مدخلا لهذا المنهج وأسسه من قلم مؤسسه.
ليس العصابي مريضا انفعاليا فحسب- إنه مخطئ معرفيا
.أبراهام ماسلو، في عبارة صدرها الكاتب أحد الفصول
الإنسان ليس رهين تفاعلات كيميائية أو نزوات عمياء، أو إشراطات آلية، بل هو كائن عرضة للتعلم الخاطئ وللأفكار الانهزامية ولديه القدرة أيضا على تصحيحها. وهو حين يضع يده على مواطن المغالطة في تفكيره ويجري عليها التصحيح اللازم، فإنه يجعل حياته أكثر امتلاء وإرضاء له وتحقيقا لذاته.
هامش المصطلحات:
الاضطراب الانفعالي Emotional disorder: صنف من الاضطرابات النفسية، سمته الرئيسة استجابة عاطفية انفعالية غير متكيفة ولا متناسبة مع الحدث المثير. يشمل الاكتئاب والقلق وغيرها.
وتشمل الاستجابات الانفعالية الطبيعية طيفا عريضا من الانفعالات التي نستجيب بها للأحداث والمواقف، مثل الغضب والانشراح والحزن.
مدرسة التحليل النفسي Psychoanalysis: مدرسة أسسها فرويد، سمتها الرئيسة هي افتراضها أن كثيرا من الأنشطة العقلية هي أنشطة لاواعية لاشعورية، وأن فهم الناس ودوافعهم الحقيقية يتطلب تأويل المعاني اللاشعورية الكامنة خلف سلوكياتهم الظاهرة وأفكارهم الواعية. وتركز على الرغبات المكبوتة والصراعات الداخلية وصدمات الطفولة، بوصفها روافد رئيسة في تشكيل الحياة العقلية والشخصية للفرد.
العصابي neurotic: اسم كان يستخدم تاريخيا للتعبير عن كل الاضطرابات النفسية لكنه اكتسب مع الوقت معنى محددا ليشير إلى اضطرابات القلق.
عن المؤلف
آرون بيك (1921-2021)، هو رئيس لمعهد بيك للعلاج المعرفي والبحوث (غير الربحي)، وأستاذ الطب النفسي في جامعة بنسلفانيا. وهو خريج جامعة براون (1942) وجامعة ييل كلية الطب (1946). أسس العلاج المعرفي في أوائل ستينات القرن العشرين خلال عمله طبيبًا نفسيًا في جامعة بنسلفانيا. درَّس ومارس التحليل النفسي، كما صمم ونفذ عددًا من التجارب لاختبار مفاهيم التحليل النفسي للاكتئاب. توقع تماما أن تثبت هذه البحوث صحة هذه المبادئ الأساسية، وتفاجأ بأن نتائج البحوث كانت عكسية. قادته النتائج المذكورة إلى البدء في البحث عن طرق أخرى لتصور الاكتئاب.