من دركات الذل إلى ذُرى التمكين
الرحلة الإسرائيلية
بدأت كخطة هروب وانتهت كدولة وملكٍ لاينبغي لأحد. رحلةٌ من الاستعباد الفرعوني إلى التمكين والحرية. مرّت بأطوار وانتكاسات، واستغرقت أجيالًا وحقب، فمالذي يمكننا أن نتعلم منها ؟ .
فاقصص القصص لعلهم يتفكرون
الأعراف 173
الاسترشاد بالمجريات والوقائع أمرٌ رشيد عند الرغبة في التخلص من المأزق الحضاري للأمة. فسنن النهوض لايغيرها الزمان ولايعفيها غباره. أستعرض هنا بعض متطلبات التمكين في ضوء التجربة الإسرائيلية :
الموازنة بين عالم الغيب وعالم الشهادة :
كثافة المادة حجبت عن بني إسرائيل اليقين بالغيب ، فهم يريدون ربًا يرونه جَهْرةً، ويريدون إِلَهًا ماديًا محسوسًا. هذا الغلو الحسي قاد إلى تشويش معرفي نجم عنه انعطافات حادة في منحنى بني إسرائيل الحضاري.
الإحاطة الشاملة بدين الله:
عمد بني إسرائيل إلى تفكيك الدين والانتقاء منه حسب الاشتهاء،حتى آل الدين إلى تفاريق وتشظّى إلى كتل من الأهواء والرغبات. وجرت هذه العادة فيهم حتى قال الله لهم ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾.
تعظيم الأمر الإلهي:
بعد سنوات التيه في الصحراء، أمرهم الله باستئناف الرحلة بقيادة يوشع بن نون والمضي إلى بيت المقدس لتحريره. منّ الله عليهم بالانتصار فأمرهم :﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾، لكنهم جعلوا هذا الأمر المعظم مسرحية هزلية كلّفتهم رجزًا من السماء.
الانتفاع الرشيد من المُسَخّرات:
﴿ …قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾
وفرة الموارد وتنوعها من مؤشرات الحيوية الحضارية للأمم، إلا أن هذا الغنى قد يحمل أصحابه على فعلين ذميمين، أحدهما متعلق بصورة الاستهلاك (الإسراف)، والآخر متعلق بدافع الاستهلاك (الإفساد).
تنحية التفكير التسويغي
من أخطاء بني إسرائيل التي كلفتهم ارتكاسًا حضاريًا، تأخير التفكير الموضوعي وتقديم التفكير التسويغي, مما يعطيهم في كل مرة إطارًا تأويليًا يجعلهم يرتكبون جسائم الأمور بضمير مرتاح. ويتضح ذلك في مشاهد متعددة من السيرة الإسرائيلية، وإذا أردت واحدًا منها, اسأل القرية التي كانت حاضرة البحر.
وجود قيادة ربانية :
موسى وهارون، يوشع وطالوت ، داوود و سليمان ، كانت هذه القيادات على مر الأطوار تعمل على حراسة المنظومة العقدية وإنفاذها في الواقع. وإعادة العبودية لله إلى رتبتها المستحقة. إن الدور الأساسي لأي قيادة مؤمنة هو إحياء الإيمان ومراقبة جذوته، فلا قيمة للعمران المادي دون تحقيق العبودية لله.
التخطيط والتنظيم
على الرغم من كثرة المعجزات والتأييدات الإلهية في تلك الرحلة، إلا أنها لم تكن بالنسبة للقادة تُكَأة في التخطيط والعمل. بل كان تخطيطهم وفق السنن العادية والمقدورات البشرية -وهذا لاينافي التوكل ألبتة-. فلما تحتم على موسى الارتحال لميقات ربه، بادر بتفويض أخيه هارون ليتولى القيادة﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾،وذلك حتى لاتترك الحبال على الغوارب ويضيع أمر العامة، ولم يعتمد في ذلك على احتمالية وقوع معجزة مع أنه ذاهب إلى معجزة!.
الدعوة والتبشير
﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن إِنِّي رَسُول مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ﴾.في سيرة بني إسرائيل نجد أن الفعل الدعوي أدّى إلى نفاذ دعوة موسى داخل القصر الفرعوني واستجابة المقربين منه لها(زوجته، ماشطة ابنته، سحرته، بعض رجاله),و لاشيء أكثر إفزاعًا لقلب الطاغية من اتصال الدعوة بِهاء ضميره.
التوافق العقدي السلوكي
يمكن التنبؤ بولادة مرحلة حضارية جديدة, من خلال مراقبة المسافة بين الفعل المجتمعي وبين معتقداته. في شأن بني إسرائيل كانت المسافة في حالة تغير مستمر وذلك يفسر التذبذب في خطهم التاريخي. هذا الانفصام بين المعتقد والسلوك ظهر حتى في أجيالهم المتأخرة. تخبرنا أمنا صفية بنت حيي -عليها وعلى بيت النبوة سلام الله- عن حوار سمعته عندما كانت في العاشرة. حيث قال عمها لأبيها: أمحمد هو هو المذكور عندنا في التوراة؟! قال: نعم، و لقد عزمت عداوته ماحييت!. وفي خطاب القرآن لهم جاء : ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾.
استيراد الهوية
بعد مجاوزة البحر شاهد بني إسرائيل قومًا لديهم نسق ثقافي وهوية دينية مختلفة. فاشتهت نفوسهم محاكاتهم, رغم أن معجزة هائلة من ربهم حدثت لهم للتو! ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾.
الاستجابة الفورية للأمر الإلهي:
كان الأمر مجرد ذبح بقرة، إلا أن التلكؤ جعل الأمر شاقا. كانت الاستجابة السوية تقتضي التسليم بأمر الله فورًا بعد فهمه. أما التأخر والتردد فهي علامة مرَضية تشير إلى قلوب يمسك بزمامها هوىً مطاع.
تمييز العلماء من أشباههم
العلماء ركيزة في أي مشروع تحوّّلي، فالانتقال من طور حضاري إلى آخر يبدأ عادة بأطروحة نظرية ثم يتبناها أنصار يحولونها إلى مشروع قائم. في أحد أطوار الرحلة الإسرائيلية برز السامري في ثوب المرشد، وقدّم فكرته الضالة في قالب علمي وساعده في ذلك أنه صادف شعبًا خاليًا من الممانعة الفكرية، فكانت تلك الظروف ملائمة لحدوث تحول سلبي في تلك الأمة، وقد كان.
الصبر
﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ظل هذا الأمر معلقًا حتى أتت فئة مؤمنة من جيل لاحق تناولته وأدخلته حيز العمل في أجواء قتالية مفزعة ﴿ولما بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ . فكانت النتيجة ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
الجدية
القوة النفسية تحتاجها أي أمة لتجسيد هويتها وتشييد كياناتها. وارتخاء العزوم نذير بانحطاطها. أمرهم الله بشدة ليتجاوزوا العبث الهزلي الذي كان فيهم، فقال في مشهد مهيب -بعد أن رفع فوقهم جبل الطور- ﴿خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾