لماذا أعجبني مشهد مكة وهي خالية ؟!
لم تألف العيون أن يكون ذلك المكان المقدس الذي تهوي إليه أفئدة من الناس خاليًا من الطائفين والقائمين والركع السجود. لكن بقليلٍ من التبصّر والتأمل سنجد أن المشهد مغشّى بالجلال والجمال رغم ذلك
يدور مع الأمر حيث دار
في هذا المشهد تجلّت جمالية الدين الإسلامي، وبرزت روعة مقاصده، وبان للناس بعض خصائصه ومقوماته، فكما أن الناس ملؤوا الحرم الشريف تعبّدًا أخلوه تعبّدًا، وبهذا تجلّى بهاء المؤمن الذي يدور مع الأمر حيث دار، ويتقلّب في أفياء العبودية على أي جنب كان .
ومن الجماليات اللتي أبرزها المشهد، ظهور العبادة بثوب “الشمولية” ، فقد تجلّت بصورة بهية معبرةً ببلاغة عن واحدة من خصائص التصور الإسلامي لهذه الحياة . حيث أنه يربط جميع جوانبها بمختلف ظروفها في سياق واحد بصورة متسقة، فالدنيا والآخرة ، والجسم والروح، المادة والمعنى ، العقل والتسليم ، المصلحة والمبدأ.
كل هذه الثنائيات تظهر بصورة بنيان متسق، ولاتشعر عندما تشاهدها بأنها حصي متناثرة متنافرة كما هو الحال عندما تتجول في أروقة الديانات الأخرى
كما لوّح هذا المشهد بجمالية أخرى في هذا الدين وهي واقعيته، وملائمته للواقع ومراعاته للمصالح. فإذا اقتضى المقام تجده يحرم ما كان واجبًا وقد يوجب ماكان حرامًا، مما يظنه بعض البلهاء خللًا في نظام التشريع وليس كمالًا فيه.
هذا الدين أتى ليشغل الواقع ويعمل من خلاله، ويرتقي به بطريقة متوازنة تراعي المصالح من غير أن تهدر المبادئ. فهو ليس غارقًا في الطوباوية المفرطة كما هو الحال عند الرهبانية النصرانية، ولا في البارغماتية النفعية كماهو الحال في التصور المادي للحياة.
بقي أن أقول أن مشهد الحرم ذرفت له العيون وجاشت له المشاعر، إلا أنه كان أيضًا مدعاة للتأمل في جماليات التصور الإسلامي ومقاصده ومايتمتع به من مقومات جعلته صَالِحًا لكل زمان ومكان وتحت أي ظرف