هل كانت سفينة نوح مثقوبة؟!
الماء رمزًا للموت
الحياة تضطرب في غير هدأة، مذاهبٌ يذهب بعضها ببعض، أفكار وفلسفات تلبَّدت غيومها حتى فتحت بابها بماء منهمر!
ظنّ الإنسان القاصر بادئ الأمر أن ذلك الماء من خيرات عقله. إلى أن فار التنور وفاض الماء، وطغى الطوفان! حينها رأى الماءٓ رمزًا للموت بعد أن كان رمزًا للحياة! رَآه كيف يهلك الحرث والنسل، ويبدد السعادة ويورث الشقاء. مشهد الغرقى المخيف لا يفارق عين البشرية التي أعلنت أزمتها، ودعت بالثبور على الفيلسوف، الذي وهبها فكرة بدأت كحياة وانتهت كموت.
وعاد ثغاء الأَنْعَام
هرعت البشرية تستجدي عقولها؛ لابتكار فلسفة جديدة تخرجها من أزمتها وتكون أكثر أمنًا من سابقتها. لبّى الفلاسفة النداء، واستبقوا الأقلام، وحبكوا التصورات الجديدة، ثم أعلنوها بكل ثقة “شقاء الإنسانية انتهى”.
شاعت تلك التصورات في شتى البلدان على أنها خاتمة الأفكار وشفرة الإنقاذ. تبناها ساسة واقتصاديون وتجسدت على هيئة أنظمة ودول وحضارة. وفعلًا انحسر الطوفان الذي آذى الإنسان حينًا من الدهر، وتبخر شيئًا فشيئًا، وعاد ثغاء الأَنْعَام.
وعاد غرق الأنام
ولكن عقول من صاغوا تلك التصورات غاب عنهم أن الماء ارتفع إلى السماء ليعود مطرًا في يومٍ ما، وهذا ما كان! فما لبثت البشرية محتفيةً بفكرتها الجديدة إلا والغيوم فوق رأسها تتراكم، ثم رعدة أقوى من سابقتها تبشر بطوفان أعتى من الأول! عاد الطوفان واعتلّت الحياة وغرقت في فكر إنسانها مجددًا.
إنقاذ
فِي وسط تلك اللُجج لاحت سفينة، كانت يومًا ما مثارًا للسخرية وعنوانًا للسذاجة وبدائية الإدراك. أقبلت تمخر الطوفان وتشق العباب، عليها رجل يقول: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ). يدعوهم دعوةً ليست من وحي فكره ولا من تلقاء نفسه، إنما هي دعوةٌ من الله نظيفة، تدعو الإنسان إلى التزام التصور القويم لهذه الحياة.
اختيار
إلا أن مِمَّن جاءتهم الدعوة السماوية، طائفةٌ سادرةٌ شهدت حال الغرقى بعينها، وبلّ الماء أسمالها، استولى عليها الغرور والعناد، وتجاهلت النداء، وآوت إلى فلسفة أرضية أخرى تعصمها من الماء بزعمها حتى حال الموج بينهم وبين دعوة الحق فكانوا من المغرقين.
أما الطائفة التي استجابت لتلك الدعوة، وتمسكت بحبالها واستوت على ظهر السفينة، متبعةً ربانها الذي ما زاغت عينه عن السماء يسترشد بها، أما تلك الطائفة فشأنهم: (اهبِط بِسَلامٍ مِنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيكَ) ليس فقط عليك، بل (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّن مَعَكَ)، على الذين يحافظون على نصاعة التصوُّر، حتى وإن كانوا من أصلاب أصلاب من هم معك، أما إن خرج من أصلابهم أناس يبدلون دعوة الحق ويلوثونها بأفكارهم فشأنهم: (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُم ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنّا عَذابٌ أَليمٌ).
ومنذ ذلك التاريخ السحيق إلى يومنا الحاضر، ما زال الصراع بين أبناء ركاب السفينة، بين الطائفة الموعودة بالعذاب الأليم والطائفة الموعودة بالسلام والبركات.