خصلتان في وعاءِ الإنسان
(عن الحريّة واحترامِ النفس)
اِحترتُ كثيرًا في كيفية بدء هـذه التدوينة وإنهاؤها دون بخس أي فكرةٍ حقها، وقررت أخيرًا أن أمنحها نصيبها من الارتجال، ورأيت أنّ الأحرى بي أن أترك للكلماتِ حريّتها بما أنّي أكتب الآن عن الحرية. فاعذروني إن تعقّدت عليكم حبالُ الأفكار بينما أنتم تقرأون ولكنّي سأحاول جاهدةً حلّ عُقدتها في النهاية. والجدير بالذكر أنّ هذه الأفكار ما هيّ إلا اجتهادات ونظريات تخصني ولربما أكون فيها على صوابٍ أو خطأ.
“جاء في لسان العرب أن كلمة الحُر من كل شيء هي أعتقه وأحسنه وأصوبه، والشيء الحُر هو كل شيء فاخر، وفي الأفعال هو الفعل الحسن. والأحرار من الناس أخيارهم وأفاضلهم.”
بالنسبة لي فالحرية تُعرَّف بمرادفاتها في عقلي، فلطالما ظننت أنها مرادفٌ للوضوح، الشجاعة والسعي وقائمة طويلة من المفردات الأخرى التي تتسم بالسمو، تلكَ التي تسمو بالمرء من منزلةٍ إلى أخرى تعلوها، تلك التي تجعلهُ إنسانًا بامتياز. والحريّة محلُّها العقل، من الممكن أن تكون حرًا في جغرافيتك وزمانك بينما تقيّدك ألف فكرة. ومقيّدو الفكر أتعسُ من غيرهم. ثمّ إنّه لا يملك الجميع نصيبًا من الحرية ولا يجب أن يملك منها الجميع نصيبًا أصلًا، فليس كل شخص قادر على أن يحمل تلكَ المسؤولية، مسؤولية أن يكون حرًا، أن يكون نفسه.
ما هي الحرية دونَ احترام النفس؟ بابٌ للانحطاط بمختلف صوره، دهسٌ صريح لقيمة المرء، بحثٌ عن الحياة في القيعان لا في القمم، اقتباسٌ لأضحل الاعتناقات والأفكار، التصاق بالأوساط والناس رغبةً في التواجد والانتماء والقبول ونيلِ العاطفةٍ بأسفهِ صورها، وتماهٍ في ثيابِ الغير. وكل هـذا يعني أنّه لا حريةَ لمن لا يحترم نفسه، إنّما له الوجه الزائف من الحرية، ومن مرادفات هذا الزيف: الانفلات، الاضمحلال، التدهور، الضياع، الانحلال والتماهي في كل ما دون قيمة النفس وثمنها.
كل شيء يبدأ من احترام المرء لنفسه وكل شيء ينتهي عند احترامه لنفسه أيضاً. اختيارات الإنسان بكل أوجهها وأصعدتها هيّ مؤشر صريح على مدى احترامهِ لذاتهِ. أماكن تواجد المرء، رفقته، شريك حياته، نشاطاته، اهتماماته، تجاربه، عواطفه ولمن يمنحها وأفكاره وكيف يوجهها كلها أمور تعكس نظرة المرء لنفسه.
عادةً لا يحترم الناس من لا يحترم نفسه، وبما أنّ خياراتنا تعكس مدى احترامنا لنفسنا فبالتالي نحن مكشوفون والناس ليسو أغبياء وأي إهانة تطالُنا لربما تكون خارجة عن سيطرتنا في المرة الأولى ولكنها في الثانية حتمًا مسؤوليتنا، ويُهينك تِباعًا من يرى أنك قابلٌ للإهانة. والإهانة أنواع، بعضها صامت وأخرى بصوت، ولها عدة أشكال كأن تكون إهانة اجتماعية، عاطفية… إلخ جادةً كانت أو ساخرة. ولكلّ إهانةٍ سببٌ ومحفّز. ربما تكون الأسباب غير واضحة وليست في متناول اليد ولكنّ المحفزات في يدِنا بالتأكيد، فالمرء هو المحفّز الرئيس في عمليةِ إهانته؛ فنحنُ نسمح للآخرين بإهانتنا أو نجبرهم على احترامنا طِبقًا لطريقة رؤيتنا لأنفسنا وكيفية تعاملنا معها.
ولضرورةٍ في نفسي شعرتُ أنّه لابد من دس “الاستحقاق” في المنتصف مابين الحرية واحترام النفس، فلا أسوأ من أن لا يملكَ المرء إحساسًا كافيًا بالاستحقاق والأدهى ألّا يملكه بتاتًا، وعدم الشعور بالاستحقاق هو وجه من أوجه عدم احترام النفس وهو آفة الجيل الحالي وأجيال مضت. حين يشعر المرء بقيمته وبكونه يستحق الأفضل و بالتالي يعملُ لاستحقاق هذا الأفضل سيختار حينها بشكلٍ أنسب ووعيٍ أوسع. فتلك التي تملك استحقاقًا مرتفعًا تختارُ شريكًا أفضل من صاحبةِ الاستحقاق المنخفض، وذلك الذي يرى نفسه في مكانةٍ معينة يبلُغها. وينالُ الحُب من يرى أنّه يستحقه، ينال الاحترام من يؤمن أنّه أهل له، وكلّها تُساق إليهم طواعية. وكلٌ ينالُ ما يتوقّع لنفسه.
في النهاية وجب عليّ لمّ شمل أفكاري هـذه. أستطيع الآن أن أقول أن الحرية واحترام النفس على وِفاقٍ شديد، أو كما كتبتُ سابقًا “الحُرية تكمُن في اختيارك للامتثال للحدود الأخلاقية بينما تملك كامل القدرة والخيار لتجاهل تلك الحـدود، الحرية هي أن تختار أن تكون إنسانًا جيدًا حين يُتاح لك السوء”، الحرية هي المصداقية حين يُتاح لك الكذب، الولاء حين تُتاح لكَ الخيانة، البقاء وإصلاح الأمر حين يُتاح لكَ الهرب، الوضوح حين تُجيد المراوغة، النور إن ظنوا أنّ الظلام حجابًا، المواجهة حين يكون التهرّب خيارًا، الاحترام حين تبدو الوقاحة فعّالة. الحرية معضلة أخلاقية، يقف فيها المرء محتارًا ما بين وضعِ قيده الخاص الذي هو احترامه لنفسِه أو فضِ كلّ القيود والعيش بعبث، هذا الوقوف في المنتصف مابين الصوابِ والخطأ، الرِفعة والإهانة والرذيلة والفضيلة هو الحرية، أن تملكَ القُدرة على أن تقفَ بين كل هـذه الخيارات وتختار من بينها يعني أنّك تملك الحريّة، وما تختارهُ هوّ ما يحددُ شكل حريّتِك، هوّ ما يحددُ ما إذا كُنتَ في قممِ الأحرار أو في قيعانهم، وبالتالي يحدد ما إذا كُنتَ إنسانًا أو طيفَ إنسان و”الذين في القاع لا يسقطون” فإما أن تسمو بحريّتك أو تُسكِنها القاع حتى تضمحل فتصبِح حينها عبدًا لكلِّ ما ومن يُعبَد.