العِقد الثاني
أزمة اللاجدوى والالتزام
أهلًا،
أنا شخصٌ يفتش عن نفسه. يتمعنُ في ماهية الأشياء باحثًا عن انعكاسهِ في أي شيء. ولكنّي حظيتُ بانعكاسٍ متمرد، لا ينعكِس!
عاقِب الحيرة بالبحث
عاقِب ما استعصى بالمحاولة
وابدأ من أي طريقٍ تشاء
وظَنّي أنه هكذا يحيى الأحياء
سبأ
لطالما كنتُ شديدة الجدية حيال مهمة البحثِ عمّا أريد. وها أنا أعترف أنّي لطالما فشلت, تجاربي أخذت من روحي بقدر ما أضافت إليها. أمّا عن السأم فقد بلغ منّي مبالغَ عديدة، ولم أبلغ أي نهايةٍ في أي طريق!. كنتٌ شديدة الحماسة في بعض الأيام وكنتُ عبارة عن ’سأمٍ” بقدمين في أيامٍ أخرى. أمّا عن الإلتزام, فهو معضلتي الكُبرى، عَجزٌ تمكنَ منّي وتمثّل أمامي عدة مرات على هيئةِ دربٍ لا ينتهي, متاهةٍ تدخلها جاهلًا أنّ أحدًا لم يصمم لها مخرجًا بعد! أمّا عن الخوف فالخوف ضرورة يا أصحاب! الخوف يدعوك لإكمال طريقٍ ما خوفًا من عدم وجودِ طريقٍ آخر. لم أكُن أعلم, لم يخبروني بذلك, أم أنهم فعلوا ولم أعرهم أي اهتمام! فدائمًا ما كنتُ غليظة الرأس وشديدة العناد… ولكن إحقاقًا للحق ما كنتُ لأحترمَ ذاتي لولا عنادي، ولكن ما كنتُ سأصبح مُجهَدةً ومُجهِدةً لهذا الحد لولاه أيضاً.
أسيرُ الآن في عِقدي الثاني, في عقد معقدٍ حدّ الترنُّح والفِرار. أُعاني معرفتي وجهلي. أعاني رغبتي بالموجود الذي لا أعرفه بعد وباللاموجود الذي أعرفه. أعاني انهزاميتي في مواجهةِ السأم أثناء المسير وأعشقُ حربي على الرتابة في ذاتِ المسير. فلا أعرف حينها هل خرجت مهزومةً أو منتصرة؟ فيُجيب شخصي العبثي “ربما”:
“الجواب نسبي ويعتمد تمامًا على نظرتك حينها”
, فيجيب شخصي العقلاني الذي لطالما أخرستُه:
“ النسبية لعنة! النسبية هي وجهٌ آخر للتقاعس, لعدم القدرة على بلوغ الحقائق الصعبة. اِستسلام مُغلف بألفاظٍ مثقفة, النسبية حربٌ على النهايات”
فأقف بيني وبين دمعِي, أضربُ رأسي في جدار حيرتي, أفتُّش في قاموس مفاهيمي بحنق باحثةً عن مفهومٍ آخرَ لأنجو, مماذا أنجو؟ من تعدد الطرق وانعدامها, من التشتت, من القدرة وعدمها, من اللازم والمرغوب, من الإحساس باللاجدوى, من تفقّد المعنى الذي يجب أن أصنعهُ بدلًا من أن أبحث عنه, من تسرعي بجهل أو تباطؤي بما أظنّ أنه وعي, من نفسي التي ما عدتُ أعرف ما تصبو إليه… وهذا التخبط يؤول إلى سيلٍ من المشاعر المؤسفة, كأن تشعرَ باللاجدوى أو بالفشل أو ربما فُقدان المعنى تمامًا, تكونُ مؤمنًا بنفسكَ في لحظة وكافرًا بها وساخطًا عليها في أخرى.
أعلمُ أنّي لستُ وحيدةً في سلّم التّيه هذا. ولعلّي لم أخبركم بأنِّي توصلتُ للإجابة بعيدًا عن رأيي بها, هي حلٌ من اثنين, إمّا الالتزام بالواقع المتوفر أو مواصلةً البحث عن واقعٍ مُرضٍ, ولا بأس باختيارٍ أيٍ منهما بدون التقليل من الآخر إلا في الأفضلية بالنسبة لك, أي إمّا اِلتزام العمل وفقًا للموجود أو اِلتزام البحث عن المُراد وحينها سننتهي في نقطة البداية ذاتها وهي أنّه لابُدَّ أن نلتزم! أي أن الحل يكمُن في اختيار التزاماتنا جيدًا, مع تركِ مجالٍ بسيطٍ للعبث, عبثٌ لا يتعارضُ مع الالتزام الذي يفترضُ به أن يشكّل أساسّا في رسمِ حياتِك على المدى الطويل. وهذا لا يعني أن تخضعَ لما لا تريد بل يعني أن تبحث عمّا تريد أو ما تجيد بموضوعية, يعني أن تُخرِس العبثي الذي بداخلك، أن تبدأ بجدية في البحثِ عن اِلتزامٍ جاد لتمتنع عن ركلهِ حين تسأم. حتى وإن اِضطررتَ للبدء مجددًا بحكمة! (وليسَ من الحكمة أن تتنقلَ بينَ البدايات فهذا يعدٌّ فشلًا واضحًا في الالتزام)
حينَ أعود للقسم السابق من النص, أشعر أني فقدتُ جنوني, جنوني الذي يجدد شعوري بالحياة. أشعرُ بالقليل من الأسى ومجددًا السأم. ولكنّي أتحرى الصدق في نفسي دائمًا مما يجعلني أعلم أنّه لا مناص من هذه الحقائق. وأنّ الهرب من الواقع ليس من شيم الشجعان الذين لطالما عددت نفسي من ضمنهم.
في النهاية وجبَ عليّ الاعتراف, أنّ الحياة لا تتسامح مع من لا يَصِلون, مع من لا يعرفونَ طعم النهايات, مع من لا يُجيدون ضبط أنفسهم, مع المتمردين, مع من يظنونَ أنّ الشعور بالاستحقاق يكفي لبلوغ المقاصِد, مع من لا يملكونَ القدرة أو الرغبة في الالتزام, فهذه الحرب على المطلق والمفروض هي حربٌ لا فوزَ فيها, هي وقوفُ حائرٌ على الأعراف…
مع خالصً المواساة والمعيّة
لكلّ التائهين أمثالي،
سبأ