جدليّة الخامسة فجرًا
كان على أحدهم أن يستيقظ في الخامسة فجرًا تاركًا نعيم وسادته ليكتب عن عبقرية بيجوفيتش وجرأة طرحه فيما يخص الثقافة والحضارة وارتباطِ الحضارة ضمنيًا بالانحطاط أو فقر القيّم. وللحضارة تعاريف عدة كما للثقافة أيضاً، عرّف بيجوفيتش الأولى على أنها “التغيير المستمر للعالم” بينما عرف الثانية بكونها “الخلق المستمر للذات” وذكر حينها أن الإنسان مُجبر على بناء الحضارة مما يجعلها “تعبير عن الضرورة وعن النقص في حريتنا” بينما تُعد الثقافة “الشعور الأبدي بالاختيار والتعبير عن حرية الإنسان”. والإنسان هو وعاء الثقافة تلك التي يملك حرية التوجه فيها بينما وعاء الحضارة هو المجتمع ذلك الذي تسوقهُ الأكثرية.
الحضارة أبعد من أن تمنح لحياتنا معنى، إنما هي في الحقيقة جزء من الهراء في وجودنا
ع.ع.ب
في مطلع السبعينات كانت الولايات المتحدة على رأس أكبر الدول المسيطرة على اقتصاد العالم، حيث شهد معاصري تلك الحقبة نوع مختلف وغير مألوف من الرفاهية وزيادة طردية في الحريّات. كما شهدت تلك الفترة ارتفاعًا واضحًا في قيمة الفرد وبالتالي تقليص قيمة العائلة مما أثّر بشكل ملحوظ على أسلوب حياة الشباب في وقتها. الهيبيز، الوجوديون أو العبثيون كلها أسماء أُطلقت على جماعات عُرفت في السبعينات وانتشرت بشكل واسع في أنحاء أمريكا. “ظهر جيل بائس من الشباب يملك كل شيء ولكن يعوزه كل شيء” هذا الجيل كان يملك الحضارة ولكنه أعوز ما يكون للثقافة، جيلًا بلا روح وبِلا قيّم.
وتعقيبًا على اِنعدام القيم فقد شهدت السبعينات أيضاً نموًا رهيبًا في معدلات الجريمة لا سيما تلك التي تُصنف تحت جرائم الانحراف واستمر هذا النمو حتى مطلع التسعينات. السؤال هو مالسبب في كون معدلات الجريمة اِرتفعت بإطراد مع إسلوب الحياة الحر المرفه؟ مالذي يجعل قيمتا الحضارة والثقافة غير مترافقتين هنا بالضرورة؟
لا أظن أنه يوجد إجابة صحيحة وخاطئة فيما يخص هذه التساؤلات وكل ما سينتج هو مجموعة تحليلات تكاد تكون خاطئة بقدر صوابها. ولكن بيجوفيتش يُعزي الأمر بشكل أو بآخر لكون إسلوب الحياة المتقدم والحُر أثر بشكل ملحوظ على القيم كما أنه أفقدنا الاختيار بقدر ما يبدو أنه منحه لنا، أي أن الفرد أصبح رهن الحضارة وأصبح مملوكًا من قِبل التقدم لا مالكًا له.
نحن لا ننقص من قيمة التقدم والحضارة هنا إنما نلفت الانتباه لأهمية الثقافة و ننوه لكونها مسؤولية الفرد السوي القويم، الحضارة ليست قيمةً مضافة على المستوى الروحي والأخلاقي للفرد بل هي انعكاسٌ لمحيطه المادي، بلغةٍ أبسط يمكن أن تكون الثقافة هي الروح بينما تتمثل الحضارة في الجسد. “الثقافة معناها الفن الذي يكون به الإنسان إنسانًا” أما “الحضارة فتعني فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة” وهنا يتضح الفصل بينهما، ونستنتج أنه لا المال ولا الرفاهية ولا الحرية ولا التقدم ولا الحضارة التي تمثل كل ما سبق قادرين على جعل الإنسان إنسانًا. إنها الثقافة! الإنسان ذلك الوعاء الحي هو وحده القادر على التحكم فيما يحمِل وبالتالي هو القادر على تشكيل ثقافته كفردٍ حُر ليعيش بكرامةٍ تحت راية قيّمه لأن من لا تعلوهُ القِيّم يعلوه القاصي والداني . إنّ استيعاب الحضارة كوجود مادي قائم والاستفادة منها بدلًا من استهلاك النفس في خضمها هو بيت القصيد. الحضارة هي من تكتسب قيمتها بمساعدة المرء لا العكس بينما يكتسب المرء قيمته من خلال الثقافة، كما أنه على المرء أن ينجو بوعائه وأن ينتصر لقيّمه وأن يُخدم من قبل الحضارة لا أن يصبح خادمًا لها وأن يمشي برفعةٍ خِلالها لا أن يُدهس من خِلالها.
إننا نستيقظ بوعيٍ مختلف في اللحظة التي ندرك فيها أن التقدم الحضاري هو لِباسٌ للعالم المادي ولا يُعد أخيّر لباسٍ للإنسان. إن مظاهر الحياة المادية السريعة من شأنها أن تفتكَ بالمرء ببطء منذ اللحظة التي يؤمن فيها أنه ليسَ أكثر من عدّاءٍ في مضاميرها.
فكيف لصانع الحضارة أن يُغلب بما صنع؟
وأنّى لمخلوقٍ أن يُخضِع خالقه؟
ولكن لا أسهل من أن تستهدِف من لا هدف له، ولا أبسط من أن تُهين من يرى نفسهُ هيّنًا…وبذلك نختِم، تسلّحوا بالدِراية فإنها مُنجِية! والدِراية هي مرادفٌ عذبٌ للثقافة.