"لا أعبأ؟"


لقد ذكرت في تدوينتي الأولى أنني لا أعبأ. ولكن، هل فعلا أنا لا أعبأ؟ كيف لا أعبأ وأنا الذي دائماً ما أحرص على كلِ شيء، واحتري الدقة في كلِ الأمور؟ كيف لا أعبأ وأنا استنفذت وقتي وجهدي لكتابة وتنقيح التدوينة الأولى، وهذه أيضاً! لعلي ارتكبت غلطاً فادحاً بقولي "لا أعبأ."


في الحقيقة، نعم، أنا أعبأ—ليس لكل شيء، بالطبع. ولربما أوهمني أنني لا أعبأ تشارلز بوكسكي، الذي تعرفت عليه مؤخراً بينما أنا على متن الطائرة. فتشارلز لم يعبأ، ولم يهتم. وللأمانة، كانت حياته مُدعاة للاشمئزاز. فكان تشارلز ما إن ينتهي من وظيفته في مكتب البريد، ذاتِ الراتب المنخفض جدا، يقضي ما تبقى من يومه بين القمار والشرب والدعارة. ٣٠ سنة مضت على هذا المنوال. لِألا أكون ظالماً، هنالك أمرٌ واحداً اهتمَ فيه تشارلز: الكتابة.


لم يعبأ تشارلز بوكوسكي بأي أمرٍ غير الكتابة. ولكنه كان رديئاً، أو على الأقل، هذا ماقالته دور النشر والصحف والمجلات وكل جهةٍ قدم تشارلز عمله فيها ورفض. أُطلق على عمله “فظيع،“ “مقرف،“ و “منحرف،“ واجتمعت عنده كومة من رسائل الرفض. وعلى الرغم من هذا، استمر بوكوسكي. وفي أحد الأيام، أَظهر أحد المحررين إعجاب غريب ببوكسكي، وقدم له عرض ليعمل ككاتب. والأغرب من إعجاب المحرر هو أن العرض الوظيفي لم يتضمن دخلٌ مادي. والأكثر غرابةً من هذا كله، هو أن بوكسكي قبل العرض.


ردّ بوكسكي على المحرر، كاتباً "لدي خيارين—إما أن أبقى في مكتب البريد وأجنّ أو أذهب لأصبح كاتباً وأجوع. قررت أن أجوع." بدأ تشارلز بوكسكي العمل، وأنهى روايته الأولى في غضون ٣ أسابيع. انطلق بوكسكي في هذا العالم لينتج عشرات الكتب الروائية والشعرية والعديد العديد من القصص القصيرة. بيعت أكثر من ٢ مليون نسخه من كتبه، وأصبح بوكسكي أحد أعلام السرد الثقافي الأمريكي.


قد يعتقد البعض أن هذه أحد قصص النجاح التي تدعو للمثابرة والصبر، ولكنها عكس ذلك تماماً. فبالرغم من نجاح بوكسكي الباهر، إلا أنه لم يتغير. حياته مازالت مدعاة للاشمئزاز، وكتابته هي نفسها. لم يتطور بوكسكي أبداً. الشيء الذي فعله هو عدم الاهتمام—بطريقةٍ أدقّ، لم يهتم. والنقش على قبره عبارة من كلمتين، "لا تحاول."


لم يهتم بوكسكي للنجاح ولم يهتم للتطوير من نفسه، ولربما هذا مايجعل من نجاحه فلسفة مثيرة. حتى أن الكاتب مارك مانسون في كتابه “فن اللامبالاة” يبتدأ بقصة مماثلة ويستعرض فلسفته الحياتية من خلالها. ولكي أٌشوه عليكم الكتاب، سأخبركم أن القصة هي ذاتها، قصة تشارلز بوكسكي. ومن هنا تعرفت أنا على تشارلز، فهو لم يكن بجانبي في الطائرة ولكن بين يدي.


بطريقة أو أخرى، يقول مانسون إن عدم المبالاة أهم من الجري وراء النجاح والسعادة وغيرها من الغايات. فمن منظور مانسون، على سبيل المثال، إن كل ماتفعله كتب السعادة هو تركيز فكرة أن الشخص حزين. وكل ماتفعله كتب النجاح هو تركيز فكرة أن الشخص فاشل. ومن منظوره أيضا أن العالم أصبح مهووس بالرغبة في المزيد: كن أذكى، كن أثرى، كن أسرع… وكل مايفعله هذا الهوس هو تأكيد نقص الشخص لهذي الصفات.


الحل؟ يميل مانسون إلى الفكرة التقليدية بالاقتناع وتقبل أن الحياة مليئة بالصعوبات. ويعوّل كثيراً على مفهوم مستوحى من قانون الرجعية “the backwards law“ لـ ألان واتس، فيقول أن رغبة تجربة إيجابية هو في نفسه تجربة سلبية، وتقبُّل تجربة سلبية هو في نفسه تجربة إيجابية. ويُضيف أن كل نتيجة مرغوبة خلفها طريق وعر. فالملاكم، مثلا، لا يمكنه القول "أنا أحب الفوز فقط وليس النزاع." وأخيراً، يقول مانسون أن الطريقة المثلى لحياة مستقرة هو عدم المبالاة إلا للأمور المهمة حقاً للشخص.


هذا فقط؟ هل فعلاً كل ماعلينا هو أن نقتنع ولا نبالي، تماماً مثل بوكسكي المحظوظ؟ ماذا عن الأشخاص الفقيرة حقاً، هل كل ما عليها فعله هي أيضاً هو الاقتناع بأنها ثرية. وماذا عن الأشخاص الحزينة، هل كل ما عليها فعله هو الاقتناع بأنها سعيدة؟ لستُ أعلم، ولكنني لم أقتع بكلامه. لربما استفدت أنا قليلاً من كتابه بأن لا أبالي لكل شيء. ولكن عذراً أيها المتغطرس مانسون، فكتابك، في رأيي، مثله مثل كتب السعادة والنجاح—مليئة بالمثالية المفرطة والوصفات المكررة.


أمقت الكتب والأفكار اللتي تروج لمفهوم واحد مناسب للجميع، وبذلك تختزل فردانية حياة الشخص. وهنا لا أدعي بالتميّز، فنحن فعلاً نتشابه  إلى حدٍ ما. ولو كنت أدعي أن الجميع مختلف لأصبحت مجرد نسخة أخرى من الذين أمقتهم.


ولذلك، ما أودُّ أن أقوله للقادرين على شراء الكتاب، لا تبالوا بقراءته. فإن كان هدفكم هو التخلص من مشاكلم، فلا أعتقد أنه سيٌفيد. وبالنسبة للفقراء والحٌزناء؟ مجدداً، لستُ أعلم. وختاماً، ها أنا أعترف بغلطي الأول، وبالتأكيد ليس الأخير.

Join