الحياة من النافذة
النسخة الأولية (المسودة) من المدونة أدناه كتبتها منذ شهور، ولكن لم أكن على استعداد لنشرها. خلال أيام عيد الفطر التي مضت، استرجعت بعض مشاعر هذه المدونة وقررت الرجوع لها.
الأفراح والأعياد والفعاليات كلها نراها من خلال شاشات رقمية أو نوافذ زجاجية. ليس لأننا لا نقدر الخروج، بل لأننا لا نستطيع. ننظر بسعادة مكسورة وابتسامة حزينة لكل ما يدور حولنا. وفي المرات القليلة التي نخرج فيها، لا تزال النوافذ تحيطنا، فنحن نراقب جميع تطورات المدينة وافتتاح المحلات الجديدة من خلال نافذة السيارة. ليس لأننا لا نقدر النزول، بل لأننا لا نستطيع. الظروف لا تسمح.
كل خطط وأحلام السفر لأماكن بعيدة والخوض في مغامرات جديدة أصبحت بعيدة المنال وخارج المعادلة، على الأقل في الوقت الراهن. فكيف لي أن أسافر ونحن نعيش مأساة مؤلمة؟ أصبح من الصعب عيش حياة حافلة وزاخرة لأن ذلك يتطلب استقرار نفسي وعائلي قبل كل شيء.
كل تجربة سعيدة أعيشها أشعر وكأنني خنت الحزن الذي لابد أن ألازمه، وكأنني خنت التضامن العائلي الذي لابد أن أظهره. ولذلك، مشاعر السعادة دائمًا ما تكون ممزوجة بكثيرًا من الألم وتأنيب الضمير.
وحقيقةً جميع المشاعر أصبحت مختلطة. الفرح متشابك مع الحزن، والضحك يشابه البكاء، والانتصار يغلبه الانهزام، والمسرّة تتوسطها غصّة، والسكينة يداهمها القلق.
لم يعد هناك طعم حقيقي للسعادة لأنها أصبحت ناقصة. وآه لو أنها ناقصة قليلًا فقط، بل هي ناقصة لأبعد مما تتخيلون. لا شيء بإمكانه وصف النقصان الذي نعيشه. ولكن للأمانة، نحنُ لسنا الوحيدون في هذه المعاناة، فالجميع بمر بهذه المرحلة أو شيءٍ مشابهة. هي حتمية أوضعها الله في الكون، لا فرار ولا هروب. ولكن بالرغم من ذلك، بالرغم من أنها حالة تواجه جميع البشر، إلا أنه لا يوجد تعبير يصف عمق المعاناة وأثرها.
نعيش الأيام في محاولة لكسر كل الظروف القاسية بروح معنوية عالية وأمل كبير وإيمان قوي، إيمان قوي جدًا لعله يلامس السماء ويبعد البلاء. كل من يرانا قد يعتقد أن الأمور بخير، وهذا إما لأننا نجيد التصنع أو لأننا نحسن التصرف، أو الاثنين معًا—وهذا ما أعتقده حقًا.
مضى ما يقارب السنتين على دخول أمي في حالة وعي منخفضة، ما يسمى علميًا ب (minimally conscious patient)، إثر إصابتها بسكتة دماغية. كنت وقتها لا أزال في أمريكا أكمل دراستي الجامعية. أخبرني أبي في بداية الأمر أن أمي أصابها الرعاف وهي ترقد بالمستشفى (لا أعلم كيف صدّقت هذا). كنت أطلب رؤية أمي في كل مكالمة ولكن يخبروني أهلي بأن أمي مُتعبة ولا يمكنهم إعطائها الهاتف. بعد تقريبًا أسبوع من عدم تمكني لرؤية أمي، قررت أنه علي الرجوع للوطن، وهذا ما فعلته. عدت وبيدي هدية اشتريتها لأمي من أحد الماركات التي تحبها.
في اليوم الثاني بعد وصولي للمنزل، كان موعد الذهاب للمستشفى لرؤية أمي. لم أعلم إذا كان يجب علي إحضار الهدية معي أم لا، ولكنني قررت تركها في المنزل. كنت متشوق جدًا لرؤيتها فقد مضى الآن ما يقارب الأسبوعين منذ أن رأيتها آخر مرة.
مشينا في أروقة المستشفى الطويلة والضيقة حتى وصلنا لمقر العناية المركزة. لم أعلم ماذا كان بانتظاري وأي مشهد يجب أن أتوقع، فإنها قد تكون المرة الأولى التي أزور العناية المركزة. كان إجراء الدخول أشبه بدخول مختبر طبي دقيق. عقمنا أيدينا ولبسنا العباءة الطبية (medical gown) وارتدينا القفازات الزرقاء. وبعدها ذهبنا لغرفة أمي التي تقع في الزاوية.
كانت الأجهزة من حولها في جميع الأرجاء. جهاز منظم ضربات القلب من جهة، ومساعد التنفس من جهة، وأنبوب التغذية من جهة أخرى. كانت الأجهزة هي التي تتحدث، أما أمي صامتة. ويا لبغض أصواتها، كانت تدق بصوتٍ عالٍ وحاد وانتظام يكاد يُفقدك أعصابك. انهرت يومها من قسوة المشهد. كل ما أردت فعله هو احتضان أمي، ولكن الأجهزة كانت تعيق الطريق.
في الأيام التالية ابتدأت اعتياد المشهد شيئًا فشيئًا. أصبح الألم واقعًا، والعيش مع الانكسار ضروريًا. أصوات الأجهزة وهي ترن أصبحت الموسيقى الخلفية لغرفة المستشفى الصامتة. على أنغام هذه الموسيقى المنتظمة، كنت أمسك بيدِ أمي وأفشي لها بكل أسراري وأخباري التي نويت أن أبلغها عنها في يومٍ ما. وبالطبع، أخبرتها عن الهدية التي تنتظرها بعد شفائها وخروجها من المستشفى.
لم يكن وضع أمي فقط هو المؤلم، ولكن وضع أبي أيضًا، فهو قد يعيش أكبر انكسار. فكيف لا وهو يرى زوجته ومسكنه ورفيقة دربه تعاني أمام عينيه. كيف لا وهو أصبح حبيس المسؤوليات وحبيس الألم وحبيس المنزل. كيف لا وهو يذهب للفراش وحيدًا في كل ليله، بجانبه فقط إيمانه القوي بالقضاء والقدر وأن الله لن يرد عبدًا قصده ودعاه مخلصًا إليه.
بعد مضي ما يقارب السنة من وجود أمي في العناية المركزة ومراكز التأهيل الوظيفي، وبعد استقرار وظائفها الحيوية، قررت العائلة أنه حان الوقت لإخراج أمي من غرف المستشفيات إلى حضن منزلنا الدافئ. تم تخصيص أحد غرف الدور الأرضي، التي كانت مجلس صغير للنساء، غرفةً لها. في أحد الزوايا يوجد سريرها المشابه لأسرة المستشفيات، حيث يمكن التحكم بالارتفاع ودرجة انحناء الضهر بشكل كهربائي. بجانب السرير يوجد العمود الممسك بالمغذي، حيث أنها لا تستطيع الغذاء إلا عن طريق الأنبوب. وعلى جوانب الغرفة الأخرى لا تزال الكنبات السابقة موجودة. الكنبة الطويلة أصبحت سرير أخواتي اللاتي ينامون مع أمي.
اليوم أمي تعيش بيننا ومعنا. هي طريحة الفراش وحبيسة الداء، ولكنها موجودة معنا في كل الأوقات. هي لا تتكلم ولا تتحرك، ولكن نحنُ مؤمنون بأنها تشاركنا اللحظات وتبادلنا المشاعر. رغم صمتها، إلا أننا نجلس بجانبها، نداعبها، نقبل رأسها ويديها وقدميها، نمسح على وجهها وذراعيها، نحدثها عن أخبارنا، نـ“فضفض“ عندها، بل ونسألها عن أخبارها أيضًا حتى وإن امتنعت عن إجابتنا.
بشكل يومي، ننقلها من على سريرها إلى الكرسي المتحرك لتجلس معنا في صالة المنزل. يجلس بجوارها أبي وهو يشاهد المسلسات والأفلام التلفزيونية مساءً بينما يديه متشبثةٌ بأمي، تارةً ممسك بيديها وتارة يدلك ساقيها وقدميها. وفي كل يوم جمعة، ننقلها إلى مجلس المنزل، حيث أصبح يومًا رسميًا يزورنا فيه عماتي. خلال هذه الزيارة، ترى أبي مبتهجًا وفرحًا وسعيدًا جدًا بوجود أخواته. ربما لا أبالغ إن قلت أن هذه أسعد لحظات أبي خلال الأسبوع، وإن حدث أنهم لن يتمكنوا من القدوم، ترى المنزل معتمًا.
خلال شهر رمضان المنصرم، كنا نحرص يوميًا على وجود أمي معنا على طاولة الفطور. بالطبع هي لا تأكل مثلنا، ولكن هي معنا. نراها ونشعر بها، ونأمل أنها ترانا وتسمعنا وتشعر بنا.
لربما أكون أنا أقل من خاض المعاناة من بين أفراد أسرتي. فأنا دائمًا بعيد عن المنزل إما للدراسة أو العمل. صحيحٌ أنني عانيت نفسيًا، ولكن أبي وإخوتي هم من حملوا كل شيء على عاتقهم. هم الذين عانوا نفسيًا وجسديًا. هم الذين لم ينفد صبرهم ولم يضعف إيمانهم. أخَواتي يتناوبون على النوم في منزلنا بجانب أمي، وذلك لأنها تحتاج رعاية خاصة. وحقيقةً هم لا ينامون، بل يقومون الليل والنهار من أجل الانتباه لأمي وإعطاءها أدويتها وتحميمها وتحريك جسدها، وأيضًا من إجل الايفاء بواجباتهم العائلية الأخرى من اعتناء بأبنائهم وأزواجهم ومنازلهم.
ليس ذلك فحسب، بل أخذوا مسؤولية القيام بمهام أمي. هم الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية إعداد مائدة الغداء لأبي، ولي أنا أيضًا. هُم الذين يستقبلون ضيوف المنزل. هم الذين يقيمون المناسبات والأعياد. أخواتي ضحوا براحتهم ونومهم ووقت عائلاتهم من أجل رعاية أمي وبرّ أبي وإحياء منزلنا.
وآه يا أبي، ماذا عساني أن أقول بحقك. أبي هو الآخر لم يعش حياة سهلة أبدًا. فهو أيضًا يشعر بالمسؤولية تجاه أبناءه وتوفير جميع سبل الراحة. دور أبي لا يتوقف في كونه مصدر المال الأساسي في المنزل. أبي هو من يتسوق—وحيدًا في غالب الأحيان—لأغراض ومستلزمات المنزل، بعد أن كان يستمتع في فعل هذه المهام برفقة أمي. هو من يذهب للمستشفى لإحضار احتياجات أمي الدورية من أدوية وغذاء ومستلزمات الرعاية الخاصة بها. هو من يطبخ وجبة الغداء في يومي الجمعة والسبت. أبي يحاول جاهدًا أن يمدنا ليس فقط بحنان ورعاية الأب، بل بحنان ورعاية الأب والأم معًا. وكل هذا يفعله بلا كلل ولا ضجر، بل بحب خالص وامتنان لما يملكه من نِعَمْ، وشُكر دائم لله على عطاياه.
وبعد يومٍ شاق ومجهد، يدخل باب غرفة نومه وحيدًا، ويصحى صباحًا وحيدًا. شكرًا لك يا أبي. شكرًا لك يا أبي. شكرً لك يا أبي.
لا أعلم لماذا، ولكنّه أشبه بالعار التكلم عن حالة أمي وعمّا حدث لها. دائمًا ما نتحفظ عن ذكر تفاصيل حالتها وكأنه سر دفين لا ينبغي لأحد أن يعرفه. ربما لأننا لا نريد أن يشفق علينا أحد؟ أو لأننا لا نريد أن نبدو ضعفاء وناقصين؟ أو ربما هناك سبب ديني يبغض التحدث عن الابتلاءات؟ أم لأننا ببساطة غير قادرين على الحديث فالمصيبة صعبة ومؤلمة؟ أنه فعلًا صعب ومؤلم التحدث عما جرى ويجري.
كل ما نقوله للناس هو "نحن بخير الحمدلله" و "أمي أحسن إن شاء الله". وقد يكون هذا هو الجواب الوحيد المناسب، فنحن نتبع مبدأ (تفاءلوا بالخير تجدوه)، وأنه (سيجعل الله بعد عسر يسرا).
يارب احفظ جميع الآباء والأمهات، وشافي جميع المرضى. يارب فرحة تمحي كل حزن، واستجابة لكل دعاء. اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا حتى ترضى.