قصص

خالد يبدأ يومه بكوب قهوة وفطور سريع قبل التوجه لمقر عمله. يعمل بجهد خلال التسع ساعات أو أكثر القادمة، ويواجه فيها المصاعب بشجاعة. يتحمّل تعليقات زميله المزعجة وملاحظات مديره المتطلّب. خلال فترة الراحة يتناول وجبة الغداء ويحصل على قسط من الهدوء، إما برفقة جواله الوفي أو أحد أصدقائه المقرّبين، ليعاود العمل بحزم بعدها. الساعة تقترب إلى الخامسة، الوقت الذي ينقضي فيه فترة الدوام، فتغمره نشوة الخروج من المكعب الضيق حيث يوجد مكتبه. حركة عقرب الثواني تبدو أبطأ من أي وقتٍ مضى، ولكنها تتحرك على أي حال.


”أخيرًا!” يهتف خالد حين يرى عقرب الدقائق مستقيمًا عل الدقيقة ستون، مشيرًا إلى انتهاء العمل وبدأ الفصل الآخر من يومه. يتوجه للمنزل لرؤية والديه وتبادل الحديث مع إخوته، مؤديًا واجباته العائلية. وبالطبع، هذه الجلسة لا تخلوا من الشاي الذي أعده أخيه وكعكة الشوكلاتة التي صنعتها أخته. ولذلك، يذهب بعدها مباشرة لممارسة الرياضة قبل أن يذهب لرؤية أصدقائه في المقهى الذي اعتادوه. وبعد ساعةٍ من الجدال والنقاش مع الأصدقاء، يتوجه خالد لشقته. يجلس ليقرأ قليلًا، ثم يمارس هوايته المفضلة: الاهتمام بالنبات. يتمشى في شقته الصغيرة لسقي نباتاته التي أسمى كل واحدةٍ منهم، متبادلًا معهم حوارات قصيرة ممزوجة بقليلًا من الفكاهة. قد لا يسمعهم ينطقون، ولكنهم بكل تأكيد يجاوبونه. يبدأ بتقليم الأفرع الجافة قبل أن يتمنى لهم ليلة سعيدة ويختم الحوار.


الساعة تقارب العاشرة الآن. يومُ خالد كان حافلٌ ومُنهك، وهو بالطبع مستعد للاستلقاء على السرير والنوم. ولكن هنالك شعور ما لا يسمح له بذلك، شعور أنه قد يفوته الكثير لو نام. أحداث كثيرة لن يكون بإمكانه رؤيتها في اليوم القادم. هذه الأحداث ليست بالضرورة متعلقة به، ولكن لسببٍ ما يشعر وكأنما لو أنها جزء من يومه. عدم رؤيتها قد يعادل تخطي وحذف يوم كامل من عمره. ينتابه الخوف والقلق من فوات أحداث مهمة.


يستلسم خالد، ويمسك بجواله لمشاهدة قصص، "ستوريز“ ستنتهي بعد عدة ساعات فقط. يبدأ بمشاهدة “ستوري” واحد، ولكن هذا لا يكفي. “ماذا عن صديقك هذا الآخر؟” “هل تريد أن تفوّت رؤية يومه؟” “إنها بمتناول ضغطة زر؟!” أسئلة تتبادر إلى ذهنه، فيشاهد ”ستوري“ آخر، تلو آخر، منتهيًا بمشاهير لا يعرفهم سوا خلال ”بايو“ الانستقرام. يقضي الساعتين أو أكثر القادمة متمسكًا بجواله عوضًا عن النوم، فقط ليستيقظ متعبًا في اليوم التالي.


كأي اختراع آخر، ”الستوريز“ لها فوائدها ومساوئها. لن أتكلم هنا عن الأسرار السيكولوجية والخوارزميات الذكية وراء تصميمها وقدرتها الفعّالة على جذب الانتباه لفترة مطولة. أنا استخدمها؛ أنشر فيها أحداث يومي الحميمة التي لا أود أن تكون موثقة بشكل دائم. ومع خاصية ”البرايڤت“ أصبحت استخدمها أكثر وأكثر، لأشارك تفاصيل لا أريد للكل رؤيتها؛ يكفيني الأشخاص المقرّبين والذين لا أخاف منهم سرعة الحكم. ولا أخفي أيضًا أنها قربتني من بعض الأشخاص، سواءً عن طريق مشاركتي أو مشاركتهم إياي.


ولكن مؤخرًا بدأت ألاحظ بشكل أكبر المشاعر والرغبات التي تغرزها فيني، شعور الخوف من تفويت أحداث الآخرين والرغبة في رؤية تفاصيل حيوات الجميع. هذا الخوف واقعي ومنتشر لدرجة أن هنالك مصطلح خاص يصفه (يختصر بـ“FOMO“). بشكل تدريجي، أشعر وكأنما هذه الرغبة الملِحّة لمشاهدة ”الستوريز“ في تطور إلى درجة مسؤلية تعادل مسؤلية عيش يومي. بشكل غير واعي وغير قاصد، ولربما رافض لو كنت مدرك، شيئًا فشيء أشعر أنني أتبنى هذه المسؤلية؛ وكأنما يومي الحافل ليس بالكافي، بل يجب علي أيضًا رؤية “قصص” (يوميات) الآخرين لأستكمل قصة يومي.


وفي إطارٍ أكبر، تدخل أيضًا باقي العوالم الافتراضية وبعض المشاكل التي تُحدثها (ولابد من التكرير أن أغلب الأمور لها محاسن ومساوئ بالطبع). ”الستوريز“ مجرد استكمال لخاصيات وتطبيقات أصبحت تجذب وتستحوذ على انتباهنا بشكلٍ مستمر، وتشعرنا بالفراغ والملل متى ما وجدنا انتباهنا ليس لديه مستقبل. الأغلب لا يستطيع الجلوس في غرفة انتظار لمدة عشر دقائق دون إخراج هاتفه وتحريك إصبعه في العالم الافتراضي، متنقلًا بين برنامج وآخر، بين صورة في الانستقرام وتغريدة قي تويتر وڤيديو في سناب شات.


يعرّف بعض العلماء الملل بعدم وجود الانتباه الكافي لنشاط معين. وفي حين أن هذه البرامج قادرة على جذب الانتباه بسهولة، فهي فعّالة لتحريرنا من كابوس الملل. ولكن بالمقابل، هذا التوجه التلقائي لهذه الوسائل قادر أيضًا على إضعاف القدرة على التحكم بالانتباه بشكل عام. بمعنى أنك لو احتجت التركيز في نشاط صعب (حتى لو كان مجرد الجلوس في غرفة الانتظار ومراقبة أفكارك بدلًا من استخدام الجوال) ستجد نفسك أكثر عرضة للشعور بالملل كون الأمور الصعبة بطبيعتها قد لا تفرض الانتباه بل تستلزم من الشخص بذل وتعمّد التركيز.


في محاولاتٍ معدودة، جربت خلال السنوات الأخيرة الانقطاع عن الوسائط الاجتماعية (تعمدت هنا استخدام ”وسائط“ بدلًا من ”وسائل التواصل“ لأنني أعتقد أنها أدق في وصف هذي المجموعة من البرامج، حيث أن ليست أجمعها حقًا للتواصل). كانت هذي التجارب مليئة بالصعوبة بقدر ما كانت مثرية. ليس بالسهل الابتعاد عن هذي الوسائط في ضوء استخدامها الواسع. الأمر أشبه بحوزتك على صندوق سري ولكن يجب عليك مقاومة الرغبة لفتحه ورؤية ما يكتنره. وهنالك أيضًا الخوف من الشعور بالعزلة والمسافة عن من حولك بسبب عدم اطلاعك على الأحداث الشائعة مؤخرًا. علاوةً على ذلك، تمر أوقات من اليوم يكسوها الفراغ والملل، فتكون هذه الوسائط الوجهة الأسهل والأسرع؛ الملل عادةً شعور مزعج، وفي بعض الأحيان مخجل، للشخص.


في الوجه الآخر من التجربة، التحرر من قبضة هذه المغريات أكسبني الكثير من الوقت الشخصي وشعور بالتحكم. نعم الشعور بالمسافة لازال يعبر وساعات الملل لم تختفي كليًا، لكن خلال هذا الوقت تمكنت من تعلم مهارات، واكتشاف هوايات، واكتساب معرفة. هذا الوقت والحرية في توجيه انتباهي أتاح لي أيضًا ملاحظة تفاصيل لم أكن أدركها من قبل، سواءً في حياتي أو من حولي. والشيء الأهم بالنسبة لي هو الاستيعاب أن الفراغ اللحظي والملل ليسوا دائمًا سيئين. أصبحت لا أبغض الملل تمامًا، بل أرحب به أحيانًا، ففي هذا الوقت تبرز الحاجة لتجربة أمور جديدة، والمساحة للتأمل في أفكار مختلفة، والفرصة للتعرف على نفسي أكثر.


في الوقت الحالي أنا لست منعزلًا عن الوسائط الاجتماعية، ولكنني أفكر بتقليل استخدامي لها؛ الاتجاه الحالي في معدل اعتمادي واعتيادي عليها لا يسعدني.


(كل هذه الكتابة بدأت من انزعاجي ذات يوم من استخدامي المتزايد للسناب شات والتنقل بين ”ستوري“ وآخر ليلًا وكأنه واجب موعد تسليمه الساعة ١١:٥٩ مساءً. سأعمل على التخلص من هذا الشعور بالمسؤولية).

Join