خيال
قد يبدو منطقيًا أن سبب تطور الإنسان وسيطرته على العالم يكمن في ازدياد علمه ومهاراته. بأدواته المتجددة أصبح يتقن الصيد، وبمعرفته المتكاثرة أصبح يفنن في الزراعة والحرث. ولكن، هنالك أمرٌ أكبر مكّن الإنسان، ألا وهو الخيال. فبخلاف المعتقد، الخيال هو التطور الأعظم للبشرية. هو الفارق الأكبر بين الأنسان وسائر المخلوقات.
قد نأخذ الكثير من الأمور على أنها واقع فعلي، ولكن في حقيقتها، ماهي إلا خيال اتفق الكل على أن يؤمنوا به. خذ المال على سبيل المثال. في السابق، كان تبادل المنفعات يتم عن طريق التقايض. ”أعطيك طن من القمح مقابل دواء“، ولك أن تتخيل عناء التجول بطنٍ من القمح. الآن، اتفق البشر على أوراق، قد لا تحمل في مضمونها أي قيمة، أن تمثل مبلغاً ما. والأطرف أن لكل ورقة، وهي متماثلة في تكوينها، مبلغ مختلف.
وعلى هذا المنوال، سترى أمثلة كثير لأمور ماهي إلا خيال مشترك. منها السياسة، والقانون، والمعتقدات. فكيان قانوني مثل الشركة أو معتقد مثل حقوق الإنسان هي الأخرى أمور خيالية. إن هدمت مقر شركة لن تمحي الشركة من الوجود، وإن فتشت داخل جسم الإنسان لن تجد أي حق ملموس.
هذا الخيال والإيمان المشترك أتاح للأنسان التعاون بأعداد كبيرة، فبدون الإيمان بنفس القصة قد لا يستطيع إثنان أن يتعاونا. تخيل للحظة أن نفس صاحب القمح ذاهب ليحصل على الدواء مرةٌ أخرى، ولكن هذه المرة بحوزته أوراق مالية بدلاً من كيس القمح. لو أن صاحب الدواء لا يؤمن بهذه الأوراق المالية، لن تتم المقايضة. المخلوقات الأخرى عادةً لا تملك هذه القدرة من الخيال، وبالتالي غير قادرة على مجاراة الإنسان. (أو قد تعتبر الإنسان فقد صوابه!)
بالرغم من النتائج الاستثنائية لهذه القدرة، إلا أن استيعاب أن الكثير من الأمور هي مجرد خيال مشترك يثير الربكة قليلاً، على الأقل بالنسبة لي. هل فعلاً كل ما نؤمن به، وبثقة تامة، صحيح؟ أم أن كل الأفكار التي اعتدنا أن نسمعها ليلاً ونهاراً مجرد قصة اتفق محيطنا أن يؤمن بها؟ أدعوك أن تشاركني التفكير، وتأمّل في الخيالات من حولك، فأنا أكثر ربكة لأن أعرف أني غارقُ في هذا التفكير لوحدي.