علم النفس الإسلامي


منبريّة الكنبة وعمائميّة الرداء الطبي

لإنّ نقاشات علم النفس الإسلامي في أوجّها هذه الأيام لذلك أردت أن أشارك على عجالة ببعض الأفكار التي تناقش الجميع قبل أن تناقش رواد هذا التوجه الحديث نسبياً من علم النفس بالرغم من أقدمية اطروحاته.

 

لكن قبل أن أشارك أحب أن أذكر نقطة في ظنّي مهمة جداً، إنّ من يتصدر ويتكلم بكلام جديد على مسامعنا - وبالذات لو كان كلاماً يتقاطع كثيراً مع مهنتنا وما استثمرنا فيه من حياتنا معرفياً ووظيفياً وفي لقمة العيش - فإنّنا حينها لابد أن نقابله بالصدود والشك والريبة، لا نلين كثيراً مع من يختلف معنا في تفاصيل علم النفس فمن باب أولى أن نكون أكثر شدة وغلظة مع من يختلف معنا في الأصول بل وفي منبعها كما في حالة علم النفس الإسلامي، هذا التصادم طبيعي وصحي لكن الذي لا أستطيع هضمه هو الإنقاص والمحو الكلي لكل صاحب توجه جديد بدون نقاش منطقي وبكثير من الشخصنة واتهام في الضحالة الشخصية والعقلية، هذا شيء أغسل يدي من صاحب هذا الإنقاص وهو أمر لا يستقيم، من يتحدث ويتصدر في موضوع علم النفس الإسلامي هو شخص اجتهد وقاس وحاول وفي محاولته صواب وخطأ لذلك نناقش الفكرة بفكرةٍ مثلها ولا نناقشها بعنجهية حيازة المعرفة والتقليل من كل من اجتهد.

 

هنا سأحاول جاهداً طرح أسئلة وأفكار بشكل أزعم فيه كثيراً من الحياد وإن كان ظاهراً بين السطور استنكاري لكن سأحاول وعليه التوكل، سأبدأ مباشرة:

١- مصدر الشرعية وهاوية تجريب النصوص الدينية:

هنالك أسئلة عديدة لتوضيح هذه النقطة الأولى الغاية في الأهمية، عند الممارس لعلم النفس الإسلامي ما هي حدود الممارسة العلاجية النفسية الإسلامية الفارقة بينه وبين أي ممارسة دعوية بحتة للتعاليم الإسلامية؟ كلنا ذلك الداعية بحول الله تعالى لكن متى سيكون المعالج معالجاً ينطلق من مدرسته العلاجية ومتى سيكون داعية ينطلق فقط من مصادر شرعية؟ متى سيكون الطبيب ومتى سيكون الشخصية ذو الصبغة الدينية داخل الغرفة العلاجية؟ هل علم النفس الإسلامي هدفه فهم الإنسان أم إلزام أي انسان -ولو كان غير مسلم- بديانة محددة؟

 

هذا الاختلاف الذي سيحصل في إجابة هذه الأسئلة تعني أننا سنواجه أزمة أبسطها أزمات الممارسة داخل العيادة وأكبرها أزمات اخضاع هذه التعاليم الدينية لسلطة التجريب والشك والبحث العلمي، حيث إنه كيف للباحث أن يراجع دورك المتداخل بين شخصية المعالج أو شخصية الداعية الديني إن كان للباحث الحق (شرعياً) في ذلك؟ بمعنى كيف للباحث – خصوصاً لو كان مسلماً – أن تناله الجرأة في اخضاع تعاليم وسلوكيات دينية للبحث والخطأ الحتمي؟ لو افترضنا أنه تم التدوين البحثي لحالات تم علاجها بطرائق العلاج النفسي الإسلامي حينها كيف للباحث والناقد المسلم أن يكون محايداً بشدة في أمر الحياد فيه قد يجرح اعتقاده؟ إن كان هدف علم النفس الإسلامي هو فهم الإنسان بناءً على منهجية معينة؛ فما هو الفرق بينها وبين اجتهادات (أو بالأصح خزعبلات) نفسية أخرى لم يتم تناولها بطرق تجريبية؟ 

 

 

وكيف من باب أولى أن يجعل الإيمان القلبي غير المرئي مخضوعاً للقياس تحت مقاييس مسألة إيمانية غير مرئية وفي مسألة زيادته ونقصانه مباحث شرعية عريضة واختلاف ناهيك عن وجود أحد من البشر يملك من الامتياز ما يجعله يقيس إيمان المرء الذي يجلس أمامه؟

 

ولو جاء الأمر لتفاصيل أعمق من هذا المنظور فحينها كيف لعلم النفس الإسلامي أن يستلهم نظريات من أمور فيها اختلاف شرعي ونصوص فيها نظر في سندها؟ وسنتناول لاحقاً تفاصيل أعمق من هذا الجانب.

٢- حساسية تداول الدين في المناهج العلاجية:

الاعتقاد الديني الإسلامي الذي يرى أن الإسلام هو الحق الأزلي المتجاوز للآخرة لابد أن يظهر في اطروحات علم النفس الإسلامي، هذا سيستدعي ويستلزم بشكل كبير امتياز الحق في نظرياته ولباس العباءة الدينية غير الواضحة في العيادة العلاجية، يجعل الشك في قول المعالج أمر محرج للمريض فضلاً أن يسأل المعالج نفسه في احترافية عمله وصحته لإنّ نظرياته منبعها أمر فيه منظور ديني عقائدي لا يحتمل الخطأ.

 

ولو أردنا الخوض ببُعد اصطلاحي وبُعد تأسيسي للدارس في علم النفس الإسلامي؛ هل العبودية في علم النفس الإسلامي لها كيفية معينة على المعالج أن يتشربّها بمنهجية وتأهيل إيماني معين وعلى مريضه كذلك من باب أولى؟ وهل هذا يناقض الشمولية المستحيل في تحديدها حول عبودية المؤمن ودرجة ايمانه؟

 

يبدو بشكل أو بشكل آخر سيكون هنالك منحدر سيشعر فيه كل من جرّب وخاض مثلاً تجربة العلاج النفسي الإسلامي ولم يشعر بالمخرجات العلاجية بإنّ الفشل في علاجه سيرتبط بفشل ركائز ذات المريض ومعتقداته الدينية ومستوى تدينه، سنمارس دور الآلهة داخل الغرفة والمريض – صدقاً في ثقافتنا – الكثير من حوله مارس عليه هذا الدور قبل أن يدخل عيادتنا، بل أنّ المريض الكاهن العابد المستعصي على العلاج كيف سنعالجه؟ إن كانت أدواته وأدوات الثقافة الشرعية لم تساعده فيبدو صعباً عليه أن نتداول ذات الأدوات ومع كل محاولة لم تنجح يتعاظم الخزي عنده؟ الغير موعي الذي من الاستحالة حصره في الذات الإنسانية سيكون بحراً زاخراً بالتأنيب العقائدي وخزي المعصية المتجذر في ثقافتنا.

 

ربط أزماتنا الإنسانية بمآلات أخروية غير ملموسة هو أمر لا نقاش بفعاليته في الإنسان ودفعه لعمل الخير والعبادة، لكن عندما يكون من يحاسبني في هذا كله هو (معالج) وكذلك معالج ديني فحينها تصبح المآلات الأخروية مخيفة خصوصاً في حالة عدم الاستجابة للعلاج ويبدأ الغير موعي بالإزدحام بالخزي ومآلات العذاب الأخروي وخلافه، أن تكون سلطة المحاسبة الدينية في يد المعالج هذا أمر مخيف ولا يمكن تجاوزه، وهنا المحاسبة ستكون في يد المعالج سواء رغب في ذلك أو لم يرغب لإنه ليس معالج عادي وفقط لكنه معالج بالطريقة الإسلامية وخلف هذا المسمى اعتبارات تلزم المعالج بها ولو جاهد في دفعها. 

 

٣- الشعرة بين المنهجيّة العلمية والطريقة الدينية المبتدعة:

ما يكون ناجحاً في أي مدرسة علاجية هو في الأغلب يعود لمعالج مناسب لطريقتها ومريض فيه استعداد معقّد لأسلوب هذه المدرسة وبيئة مجتمعية علاجية تقود للمخرجات، تقمص العمامة الإسلامية في العلاج تستلزم - ولو بشكل جزئي - أن الطريقة الأيديولوجية المستخدمة في النظريات العلاجية هي الطريقة الأنسب وعلينا بشكل أو بآخر أن نُلبس مريضنا شيء ربما يناسب وربما لا يناسب مقاسه، هذا الأمر يتشارك فيه علم النفس الإسلامي وغيره من المدارس العلاجية لكن الخوف هنا كذلك في أمر أبعد، الخوف هنا أن الأيديولوجيات تحت الإسلام ذاته عبر الزمن فيها اجتهادات ومن باب أحرى مدارس فقهية ومذاهب، من الضرورة أن يحدث في طرح هذا العلم أو مدرسته العلاجية الباس الفرضية -التي لا يوجد فيها نص ديني- ملبس ديني ومن هذا الملبس تأتي الزامية قداستها ومن هنا تبدأ تقديس الأشياء الغير مقدسة، سيقودنا اختلاف النصوص لعلم نفسي مذهبي ويبدو صعباً ابتعاد احتمالية هذا الأمر، قد يقول قائل وما المانع في ذلك؟ سيبقى الحق حقاً والباطل سيزول، نعم لكن علينا حينها أن نتعايش مع مأساوية أنّ الباطل مستمر في هذا الحقبة الزمنية وعلينا كذلك أن نتعايش -وهنا مربط الفرس- أن علم النفس الإسلامي سيصبح بالضرورة أمراً شبيهاً بالمدرسة الدينية أكثر من كونها نظريات إنسانية، سيصبح للمعالج النفسي ومن يقوموا على هذا العلم الزامية الاجتهاد العقائدي والفقهي، ستكون هذا العلم مكاناً خصباً لأي بناء عقائدي ألا وهو التعصّب له وبالتأكيد التجاوزات باسم الدين وكأنها فرقة دينية أكثر من كونه منهج علمي علاجي. 

٤- أزموية الخطاب

قد لمحت والأمر واضح بشكل كبير من بعض رواد علم النفس الإسلامي تقاطع خطابهم مع أدبيات أي خطاب ديني وليس بالضرورة إسلامي، من المفهوم تماماً أن تُقزّم منهج لإبراز منهج آخر، هذا الأمر مفروغ منه، لكن الخطابات الدينية بطبيعة الحال ما تتناوله هي أمور تتعلق بالهويات والغيبيات والغايات وحينها التبرير منطقي أكثر لاستخدام أسلوب تعظيم تعاليم ديانة بتقزيم تعاليم ديانات أخر، لكن هنا التقزيم هنا في علم النفس الإسلامي لن يكون اتجاه مناهج دينية بحتة لكن سيكون التقزيم لمناهج علاجية مختلفة والتي من المفروغ منه وجود أماكن للتلاقي بين طرائقها وبين الكثير من نظريات علم النفس الإسلامي.

 

لا يُمكن للطرح العلمي أن يكون بلغة الكيل الاقصائي من الطرق الأخرى لإن هذا الكيل سيقتل ذات العلم قبل أن يقتل العلم المقصود بالإقصاء، هذا النوع في الخطاب الديني – أو قُل خطاب علم النفس الإسلامي - في صنع المعارك والمواجهات مُجهد ومضني ويُعيق صاحبه ولا يحرّكه للأمام وهذا الأمر متكرر في الخطابات الدينية بعمومها بسبب عدة أمور ليست محور نقاشنا، هذه النغمة من المواجهة تُضعف صاحب الحجة وهي ما تُشغله عن بناء أي منهج علمي.

 

من أزمات هذا الخطاب هي أزمة الحلول الأحادية، الرغبة المتزايدة في اظهار بضاعتنا (أو مدرستنا العلاجية) يعني فيما يعني أن ندعو بأنها الحل الأوحد وأن ما غيرها من المدارس هي حلول زائلة (وهذه فلسفة متجذرة في الخطابات الدينية) وهذه اللغة من التسلسل الخطابي الطبيعي أن تكون موجودة في لغة العاملين والتي كذلك تظهر في اللغة التعميمية ضد أي معالج آخر لا يستخدم علم النفس الإسلامي. 

 

من الملحوظ كذلك في أي خطاب ديني أنه يستمد قوته من جماهيريته وبالطبع فالجماهير تملك دلالات على فعالية الخطاب، الإشكالية هنا أن أي منهج علمي لا يمكن الاستناد فيه على الجمهور فقط، لذلك الوتر العاطفي التجمهري في لغة علم النفس الإسلامي لها لذتها لكي تستمر لكن لا لتكون ثابتة بشكل علمي ممنهج.

 

Join