رومنسية الإفصاح عن تشخيصنا النفسي
حديث عن الدوافع والموانع
ما هي الدوافع التي تجعل عدة أشخاص يقومون بشكل في أغلبه اندفاع وكذلك تخطيط بالحديث عن تاريخهم المرضي النفسي الحالي أو السابق في مكان ثقافي أو احتفالي أو ربما عل كل آلاف من يتابعونهم في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل فيه شجاعة مع بعضاً من التفاخر وأحياناً - في تجربتي مما شاهدته - قليلاً من التصنّع؟
هذا أمر شاهدته شخصياً في لقاء اجتماعي وحدثني عنه صديق في محفل رياديين قبل فترة حديثة جداً، هذا الإفصاح "المخملي" عن المعاناة النفسية بعدما كانت محصورة في عالم التك توك والإنستغرام هو أمر - في ظنّي - يستحق التفكير في دوافعه وموانعه وهذه التدوينة هي محاولة للتفكير لم تُبني على شيء بحثي.
قبل البدء؛ هنا الحديث عمّن قام بالإفصاح عن تشخيصه النفسي الذي بالفعل شخصّه إياه طبيب أو معالج نفسي مصنّف ومدرب تدريباً إكلينيكيا على عملية التشخيص، هذا التنبيه مهم جداً لإنّ من يقوم بالإفصاح عن تشخيصه النفسي الذي قام هو بتشخيص نفسه به هو أمر مختلف ومنتشر وفي ذات الوقت مخيف لكنه ليس محور هذه التدوينة.
لماذا هذا الإفصاح الإشهاري؟
لماذا اللعب بالنار أو ربما التمتّع بشرار هذا النوع من الإفصاح؟
لا نقاش أن الإفصاح عن التشخيص النفسي أمر فيه دلالة شجاعة وهو - بحثياً ومنطقياً - من العوامل التي تقلل من وصمة الاضطرابات النفسية، وأقولها قبل أي شيء أن هذا الافصاح في هذه المرحلة الزمنية والجغرافية هو أمر نحتاجه ومن الغير منطقي كتابة تدوينه في تحليله وتشريح دوافعه، لكن في ظنّي هذا الملمح الرومنسي الفظيع حرفياً في زوايا التليقرام والانستقرام والتيك التوك هو أمر كافي لتحليل ما يمكن تحليله وعندما يغدو الأمر كذلك بطولياً مخملياً في التجمعات الثقافية وخلافها حينها أصبح الخطاب على السطح ونقاشُ أمرٍ كهذا في تدوينتي أو غيرها هو تسلسل منطقي.
الدوافع والموانع
الدافع الأول في اعتقادي لفعل هذا الإفصاح هو لمعان فكرة النصر والبطولة التي تحدث بعد المعاناة، أن تقاسي الاكتئاب أو القلق ثم تصعد وترتفع وتكون من تكون أنت في اللحظة الراهنة هو أمر ملحمي لطيف والأمور الملحمية هو أمور جيدة على الأقل في الصعيد الشخصي الغير موعي فضلاً عن أي انتصارات أخرى، وهذان التشخيصان بالذات (وأعني الاكتئاب والقلق) تحديداً عن غيرهم من التشخيصات النفسية هما الأكثر شعبية في الإفصاح الملحمي لإن لمعة الانتصار على غيرهم من التشخيصات النفسية الأخرى ليست مغرية بالشكل الكافي وفي هذا تلميح كافي عن مدى وصمية موضوع الاضطرابات النفسية بالرغم من أنّ هذا الإفصاح هو محاولة لتقليل الوصمة، قد يكون هو التقليل الذي يؤكد الأصل في ديمومة وصمة الاضطرابات النفسية.
الدافع الثاني ربما يتمظهر في نقطة شاهدتها أمام عيني عند لحظة افصاح جماعية حدثت بشكل ملفت، النقطة هذه ربما نسميها (عدوى الافصاح)، في الجلسة أحدهم يتقدم بدافع غير معلوم ويفصح عن معاناته النفسية من ثمّ يحدث بشكل طبيعي وسلس الإفصاح المتوالي من أغلب الحضور ويصبح الإفصاح دافعه المشاركة الإنسانية المدفوعة بالحس الاجتماعي للحظة وقد تكون مدفوعة برغبة عدم الظهور بمظهر المختلف أو التقمّص بمعنى معيّن تم تقمّصه من الحاضرين عند افصحاهم لتاريخهم النفسي.
الدافع الثالث هو سحر واغراء جمالية المعاناة، الإفصاح فيه تجلّي لذيذ بفكرة المعاناة، فيه نوعٌ من الصبابة وكسر جفاف الجدية، فيه لمعةُ عينٍ وهدوء نبض، هذه الكيمياء التفاعلية التي تحدث مغرية للغاية وعندما نستلهم هذه المعاناة من تاريخنا المرضي النفسي فحينها المعاناة تتمثل فينا وفي شخصنا وهذا أمر من الصعب مقاومة دافعيته، وهذا الأمر ليس وليد هذه الحقبة بل الإفصاح عن أحزاننا هي نزعة إنسانية موجودة عبر الزمن لكن اختلف فيها الوسيط ومحتوى ذات المعاناة، وهنا أستحضر تنبيهاً تحدثت عن خطورته وهو إلباس مشهد الانتحار بعمومه بشيء من هذه الرومنسية الحزنوية في هذه التغريدات.
الدافع الرابع هو دافع تلقائي بحت ألا وهو مدى ما يعطيه الإفصاح عن التاريخ المرضي النفسي الشخصي من شعور داخلي بالتواضع والتماهي مع من حولنا بأننا كلنا ذلك الإنسان قليل الحيلة في كثيرِ من أحواله، التاريخ النفسي يعطي هذه الكفاية من الجناح المنخفض ويجعل المشهد إنسانياً باهياً لذات المُفصح قبل أن يجعله كذلك لمن يسمعه.
وهل هذا الإفصاح هو أمر خاطئ؟
في ظنّي لا يوجد هنا أمرٌ صحيح بشكلِ واضح أو العكس كذلك، لكن التفاخر بالتاريخ السابق للمرض النفسي بشكل دائم في أي محفل وتلاقي اجتماعي هو أمر ملفت وله ما له وعليه ما عليه كذلك، إن كان هنالك أمر بإمكاني الهمس به لكل من يرغب بالإفصاح عن تاريخه النفسي فأقول له: "لا أحد يجبرك على الإفصاح"، نعم هو أمر لطيف وفيه شجاعة، لكن الزجاج المتطاير من هكذا افصاح حينها من الممكن أن تصيبك والوصمة قائمة دائمة، لا نعلم من هم الذين يسمعوننا ولا نعلم في أي تقاطع سنقابلهم في حياتنا، الإفصاح بالضرورة يحتمل أن تطبع عليه الوصمة بصمتها، أنت في عين من سمعك شخص انساني شجاع وقمت بما قمت، لكنك كذلك في عين بعضهم شخص تعرّض لأمر عليه مناحي ومفاهيم سلبية حوله وهذا أمر يستلزم الاحتياط في التعامل معك أو في الاقتراب منك، الإفصاح لمرة واحدة أو اثنين أو حتى ثلاثة للغرباء عنّا هو أمر فيه تفاعل انساني طبيعي، لكن في ظنّي تكرار الإفصاح لمرات ومرات عل كلّ من هبّ ودبّ هو أمر يحتاج فيه ذات المُفصح أن يتحدث عنه مع أحدهم.
ختاماً ... الاضطرابات النفسية ليست موضة ولا أمر بديع في كله، الأزمات النفسية في أغلب حالاتها لابد أن يكون هنالك من قصّر في شيء لكي تظهر هذه الأزمة النفسية، التقصير يحتمل الجميع من مؤسسات اجتماعية واقتصادية وصحية ونفسية وأسرية وكذلك ذات الشخص المُفصح، خطابنا التوعوي النفسي أحياناً أشعر أنّه يعزّز هذا المشهد الملائكي من الإفصاح بالإغراق في تحرير المصاب بالاضطراب النفسي من أي مسؤولية في اصابته وهذا في حالات كثيرة جداً بالفعل صحيح لكن المسؤولية تحدث بشكل متفاوت مع كل شخص ومع نسبة كبيرة من الاضطرابات.
سامي سعد
زمالة تخصص دقيق في الطب النفسي العصبي من مستشفى ملبورن الملكي في مدينة ملبورن - أستراليا
البورد السويدي في الطب النفسي العام من مستشفى كارولونيسكا في ستوكهولم - السويد
دبلوم العلاج النفسي السلوكي والعلاج النفسي الديناميكي المكثف قصير الأمد للمشاعر