تدوينة قصيرة عن الرائحة داخل غرفة العلاج النفسي
العطر والانتماء وباريس .. والعلاج النفسي!
هنالك مقالة لطيفة وجدتها وأنا أحضّر هذه التدوينة التي رغبت منذ فترة طويلة جداَ الكتابة عن موضوعها بطريقة شخصية لكن الطبيب الباحث داخلي رفض أن تخرج هذه المقالة بدون طابع علمي ولو على مضض، هذه المقالة تتحدث جزئياً عن فكرة الانتماء والحنين الذي يحدث داخل الطفل لرائحة بيته وأمه ووالده عندما يحدث الطلاق بين أبويه، الطفل يتحدث في المقالة كيف أن رائحة منظف الملابس الذي كانت أمه تستخدمه عندما كانت مع والده أصبح الطفل يربطها ببيته القديم، وعندما يذهب لزيارة والده في بيته الجديد وهنالك منظف آخر يتم استخدامه حينها يشعر الطفل بنوع من التشويش والارتباك للرائحة المختلفة وكذلك نوع من عدم الانتماء لهذا المكان، وهنالك أم أخرى في المقالة تتحدث كيف أن أطفالها يعودون برائحة أبيهم عندما يعودون من بيته بعد طلاقهم، تقول هذا - وهي تضحك - ولذلك تبدأ بغسيل ملابسهم أولاً لكن تظل الرائحة حتى في شعرهم!
“Wear perfume wherever you want to be kissed!”
Coco Chanel
الانتماء الذي تصنعه الرائحة .. والماضي المثالي!
هنالك أطروحات سابقة تحدثت عن أثر الانتماء الذي تصنعه الرائحة في ذهنية من يشمها وبالعموم عن تأثير المحسوسات (كالرائحة) على الوعي فينا، عن التفريق الذي يحدث بسبب رائحة معينة فيكون منبع هذه الرائحة هو أمر نرى فيه جزء من ال (أنا) وال (نحن) فيها ونصبح منتمين لها، أو يكون منبع رائحة مختلفة على الجهة المقابلة هو أمر نرى فيها (الآخرين) وليس نحن، هذه القدرة العجيبة الذي تفعله الرائحة على التضمين والاستبعاد أو على تقوية الأواصر وتدميرها، لعل الرائحة تفعل ذلك بشكل متكرر وغير ملحوظ لكن ما تفعله الرائحة كذلك بشكل أوضح هو تنشيطها لفكرة الحنين في داخلنا أو ال Nostalgia، قد يقول قائل أن رائحة عطر قديمة بالفعل قد تُذكّرنا بما مضى والحنين للماضي برمته، لكن مقتضى النوستالجيا بالعموم وبالخصوص مع الروائح هو تفعيل الحنين للماضي (المثالي) وتنشيط الذاكرة المرئية - كما يُطلق عليها في التحليل النفسي - للماضي المثالي الجميل بطريقة منتقاة وخالية من الذكريات السلبية وذلك في حالة دفاعية نفسية يقوم بها الغير موعي منّا بكبت هذه الذكريات السلبية حمايةً للأنا فينا، هكذا وأكثر تفعل الرائحة وزجاجة العطر وروائح المخابز أو الأطعمة التي تأخذنا شرقاً وغرباً لأماكن ولأشخاص نشتاق للبديع من ذكرياتهم معنا بزخم عاطفي مُبهج، والملفت أن هذا الحنين يكون شخصياً في احساسنا وفي شدة الخصوصية لذاتنا العميقة، ولكي يكون الموضوع حياً وذو رائحة لذيذة سأخبركم قليلاً عن مكتبتي العطرية، أملك قرابة ١٧٠ زجاجة عطر ومثلها من عينات العطور، اقتني الزجاجة تلو أختها وكالعادة عندما أشتري عطراً جديداً أفكر سريعاً في العطر الذي سأشتريه بعده، مكتبتي بنيتها في أقل من سنتين وهذا العدد لدى أهل العطور ليس بالكثير، وهنالك ثلاثة عطور بالذات عن غيرهم من العطور التي تصنع هذا الحنين للماضي المثالي والانتماء لطفولتي مع أبي، الأول وبدون منافسة شديدة هو عطر كارون (وأكاد أجزم أن الكثير يشاركني نفس شعوري) والثاني هو عطر أوپين والأخير هو عطر داكار نوير، سأشارككم صور العطور بالأسفل ولعل الصور لوحدها ستصنع بعضاً من الحنين والانتماء بل ربما قد تنشط المنطقة المسؤولة عن الشم في أدمغتكم.
الاعتلال عندما كان مربوطاً بالرائحة .. باريس مثالاً!
في القرون الماضية كان من الاعتقادات اللازمة أنّ الكثير من الأمراض القاتلة (مثل الملاريا والطاعون) تنتقل عبر الرائحة الغير جيدة، وفي عام ١٧٩٤ تم تعيين هذا الطبيب Jean-Noël Hallé كأول شخص مسؤول عن الصحة التعقيمية في باريس وذلك للحد من الروائح الباعثة للمرض، وهو ربما من أوائل من أضاف ثورة لللتاريخ العطري عندما وضع أساسيات وجود الروائح السامة المختلفة تماماً عن الروائح الغير جيدة وفقط، هذا التفريق صنع دلالات تموجية لفكرة الرائحة وكيف أن ليس كل رائحة غير محببة هي سامة وكيف أن الرائحة الغير سامة هي غير مرضية لكن بالإمكان اكتشافها وتحويرها لما هو قد يكون مقبولاً وبالإمكان الخوض في ذات نوتات الرائحة بدون الخوف من المرض.
هذا الربط بين الرائحة والمرض هو أمر فيه دلالة عن الأثر الفطري الذي تتركه الرائحة ليس فقط على الناحية الشاعرية من الانتماء والحنين لكنه كذلك تأثير جسدي مثبت علمياً مثلاً كما يعلم أغلبكم وجود علاج نفسي جسدي مساعد ويطلق عليه بالأروماثيرابي Aromatherapy مبني على هذه المعاني المتعلقة بالروائح عبر القرون والتي يُستخدم فيها زيوت عطرية بهدف اثارة العصب الشمي للتأثير على المناطق المسؤولة عن عواطفنا في دماغنا، من أشهر الأمثلة زيوت اللافندر والحمضيات وأثرها الإيجابي المعروف على القلق.
"In the course of time, a woman's perfume is a more moving memory than a photograph of her"
Guy de Maupassant