الطبيب المحجور (٢)

الجزء الثاني من مجموعة تدوينات قصيرة في طولها .. طويلة فيما بين سطورها .. في ظاهرها فرحة وفي باطنها كثيرٌ من احتساب!

The worst part of holding the memories is not the pain. It's the loneliness of it. Memories need to be shared.

Lois Lowry

التدوينة (٤)

عندما تكون اللطافة معضلة أخلاقية

اليوم قمت بعملية حسابية وأنا في كامل يقظتي لم أقم بها في المطار عندما كنت كاملاً في أي شيء آخر بعيداً عن يقظتي، وصلنا المطار صباح ذلك اليوم قبل بزوغ شمسه وعندما تم توقيعي على أوراق الحجر تم احتساب يوم الوصول بأنه اليوم صفر من أيام حجرنا وهذا يعني أننا بحضورنا في هذه الساعة المبكرة جداً من ذلك اليوم لا نختلف تماماً في مدة حجرنا عمّن سيأتي في نفس اليوم الساعة ١١:٩٥ ليلاً لإننا كلانا سنخرج من الحجر في ذات اللحظة، قمت منتشياً من الفزعة أخبر عائلتي كعادتي بأن لدي خبرين إحداهما سيء والآخر جيد، الأطفال لم تنلهم الدنيا فطلبوا الخبر الجيد أولاً وبالعادة ينسون وجود خبر سيء، لم يعيشوا في هذه الحياة ما يكفي لينطبق عليهم كلام الأخطل حين قال:


والناس همهم الحياة ولا أرى —  طول الحياة يزيد غير خبال


ولإنني لست طفلاً ولإن الحياة بما فيها نالت منّا ما نالت كما قال الأخطل فأخبرتهم:

  • الخبر السيء أننا سنمضي بالحجر أكثر من ١٤ يوم

  • “والخبر الحلو يا بابا؟”

  • الخبر الجيد أننا سنمضي وقتاً أطول بالقرب من بعضنا!


    حتى أطفالي أشاحوا وجههم عنّي وعن خبري الجيد الغير مستساغ، بعدها الممرضة تحضر إلى باب غرفتنا وهي في كامل عدّتها المانعة من العدوى لدرجة استخدام الحامي الشفاف للوجه وأقوى الأقنعة الطبية على أنفها وفمها، لا تعلم أنني أدخل على مرضى الكوفيد أيام المستشفى بأضعف الأقنعة معتمداً على جهابذة من صنعوا التطعيم في جسدي ودعاء الليالي من أمي، نعم حضرت إلى الغرفة تطلب منّا إجراء المسحة لنا جميعاً، سألتها هل هو اختبار للفم أم الأنف؟ قالت وعيناها بدأت في الصغر دلالة على ابتسامتها في محاولة للطف “Both”، قالتها لي وأنا أتخيل نفسي حينها أمسك أولادي من أياديهم وأمهم تمسكهم من أرجلهم لعمل المسحة، وليست واحدة بل أربع مرات في هذا الحجر وقبلها مرة بالسعودية ومرتان في أبوظبي.


    لكن ما دفعني لكتابة هذه التدوينة هو لطف الممرضة واللطف العام من العاملين بالحجر، حضر لي شعور كيف أن هذا اللطف بالفعل بالرغم من أهميته لكن أحياناً يصبح مأزق خفي، نحن الأربعة في هذه المساحة الضيقة جداً التي لا نرى فيها الشمس ولا نرى فيها أي كائن حي عبر النافذة ولمدة ١٤ يوم وبالرغم من صعوبة ما سنمضي فيه لكنهم يحرصون على اللطف والابتسامة، هل هذه اللطافة تعطيهم العذر بأنهم يشعرون بما نشعر، هل تُعطّل فيهم هذه اللطافة أهوال ما يحدث لنا، بل هل هذه اللطافة قد يرونها أفضل ما يقدمونه وهي كافية وجيدة، ما نحن إلا غرفة من مجموعة غرف يوزعون عليها لطفهم وابتساماتهم وهذا في الغير موعي منهم كافي وجيد، كيف نحن عندما نقدّم اللطافة نشعر أننا قدّمنا الكثير والآخر غارق يصارع ما يصارعه.

أخذت الممرضة مسحاتها .. طفلي كاد أن يعضني وأنا أمسك بفكه ليفتحه للمسحة .. مسحت أمهم دمعاتهم .. وزعنّا أحضاننا عليهم في دور مماثل تماماً لتوزيع ابتسامات تلك الممرضة وربما في ذات المعضلة الأخلاقية ..  شغلت اليوتيوب عن أي شيء يصبّرني على هذه الأيام القادمة فكان علي بن محمد وعلى أعلى الصوت حينما يغني عن فخامة الصبر لديه:


أنا صبري تعلمته قبل أُولد بتسع شهور

تعلمته وأنا نطفة .. ورثته من صبر جدي!


التدوينة (٥)

كل شيء هادئ على هذه الجبهة!

ما سبب هذا العنوان؟ انتظروا قليلاً!


حالياً أكتب في يومي السادس، إلى كل أولئك الأصدقاء ولن أسمّي أحداً، إليهم الذين قالوا لي في لحظة لطف أو في لحظة تخفيف، إليهم من قالوا لي استفد من أيام حجرك وأنها ستمضي مسرعة، إليهم أقول لهم نعم الشيء السريع الذي حدث فيها هو تذكري لنفسي وأنا بسذاجة أصدق ما قلتموه، الوقت هنا يمر كما أنه لا يمرّ، أصبح الحساب لعدد ما تبقى من الأيام أمر أقف في منتصف حسابه لإنّ نهاية العملية الحسابية مرارة ورقمٌ كأنه يزداد مع الأيام لا يقل، كل ما في هذه المساحة - والتي تضيق مع الأيام - يذكرّني بأشياء لا بشيء من بطء هذا الصبر، كما يقول رفيق الطب إبراهيم ناجي رحمة الله عليه:


ما أضيع الصبر في جُرح أداريه —- أريد أنسى الذي لا شيء يُنسيه

وما مجانبتي من عاش في بصري — فأينما التفتت عيني تلاقيه


ولإن الدراما لا تأتي فرادى، اليوم اتصلت علينا مندوبة من وزارة الصحة الأسترالية:

  • المندوبة: أنتم بخير؟

  • نعم!

  • المندوبة: عيناتكم سلبية كلها.

  • نعم أخبرتنا الممرضة بالفندق .. ماذا لديكِ؟

  • المندوبة: طائرتكم الكبيرة التي حضرتم بها من سريلانكا، طائرتكم الكبيرة جداً وطاقمها -بحماقة- جعل ركابها ال١٥ فرداً فقط يجلسون بالقرب من بعضهم في صفوف متتالية لكسلهم عن خدمتكم إن تباعدت مقاعدكم، طائرتكم تلك التي نمتم وأكلتم فيها بدون أقنعتكم الواقية، طائرتكم تلك أحد ركابها اكتشفنا اليوم أنه يحمل الفيروس (حسناً هي لم تقل كل هذا لكن ركوباً مع موجة الدراما)


وهي تقول تلك الأخبار والشيء الوحيد الذي كان يحدث في مخيلتي أننا سنمضي هنا أكثر مما ينبغي، حينها حتى أصدقائي الذين أرشدوني بأن أستفيد من حجري هذا وددتهم معي لكي نستفيد سوياً ونتشارك بالذات فوائد بطشي، لكنه على يبدوا أنّ الأمر لن يطول إن استمرت عيناتنا في سلبياتها، اللهم سلبية سلبية!


إن كان الحجر ومعي عائلتي وبعافيتي وهذا يحدث معي .. حينها شريط المرضى المحجورين في غرفهم لوحدهم في المشافي حضر في بالي وأنا أمر عليهم في روتيني اليوم كل صباح، لن نشعر بالأسى لمآسي غيرنا لإنه - كما تقول ملحمية ريمارك- بالعادة كل شيء هادئ في جبهتنا الغربية، أحد مشاهد هذه الرواية الخالدة أراه وأرى نفسي أعيش دوره أمام أي مريض مررت عليه في غرفة حجره بالمستشفى، ذلك المشهد حينما يحادث بطل الرواية اليافع پاول بويمر الذي ترك مدرسته وشبابه وكان أحد أفراد جيلٍ ضاع في لعنات حربٍ ليست بحربه، ذلك المشهد حينما يحادث ضحيته الأولى في الحرب العالمية الأولى بعدما أن قتلها، يقول له -وبتصرف- وهو جثة أمامه وپاول يبكي:


“لكن الآن، ولأول مرة، أراك رجلاً مثلي، كنت أراك كقنبلة والبندقية في يدك والخنجر يخرج منها، لكنني الآن أرى زوجتك وأطفالك وصداقتنا، سامحني يا رفيقي، نحن عادة نرى هذه الأمور في وقت متأخر، سامحني يا رفيقي .. كيف لك أن تكون عدوي؟!”


وقبل أن أنتهي؛ هل تذكرون شكوتي لهم عن ضيق الغرفة وهول ما فيها في تدوينتي السابقة؟ حسناً تم الرد عليها بعدها بيوم بالنظر في أمري ولهم الآن يومان وهم ما زالوا ينظرون في أمري .. الحمقى لا يملكون أطفالاً وربما كذلك قلوباً وأعيناً ينظرون بها جيداً!

Join