آخر من سقط في المعركة!

تدوينة قصيرة - عطريّة - عن أحد الأسباب التي جعلت العمل بالمجال النفسي الصحي مُستطاعاً .. وممتعاً!

من الممكن القول بأنّ هنالك أسباب عديدة تجعل مهنتنا في المجال النفسي هي مهنة حيّة متفاعلة في داخلنا كمعالجين أو عاملين فيها مثل البُعد الإنساني لها أو الغور اللامتناهي من التعمّق في النفس الإنسانية أو ما نعالجه فيها أو حتى ما تُعالجه فينا وخلافها من الأسباب، هذه الأسباب تختلف وتنكمش وتتمدد وتختفي بعضها وتظهر أخواتها.


حسناً هنا سأنتقل لعالم أخر، ربما الأغلب يعلم أن السائل العطري في أغلب العطور - الجيدة منها - يتم تكوينها لكي تكون التجربة ليست على طبقة عطرية واحدة في الأغلب، هنالك في ذات السائل العطري طبقة عبارة عن مقدمة العطر التي قد تستمر لدقائق ثم تأتي طبقة عطرية مختلفة وفي ذات الوقت ممتدة أو تمحي الطبقة الأولى، من بعدها يكون الجفاف العطري لذات السائل العطري على الجسد الذي يعطي – كما يُقال عند العطّارين – بالطبقة القلب أو اللب من السائل العطري وفيها قد تشمّ رائحة تماماً مختلفة عن الطبقات السابقة والتي من أجلها – وهذا مقصد كلامي – إِنْ زالَ سحرُ مقدمة العطر الأولى فإنّ الطبقة القلب للعطر قد تكون الأهم والتي تجعل من العطر تحفة تُجبرنا على تكرار شمّها على أجسادنا رغم جفاف العطر عبر الساعات. 


وما دخل هذا بذاك؟

 

في هذه السنين الأخيرة وصلت شخصياً لدرجة من الانسجام مع فكرة أنّ مهنتنا هذه في المجال النفسي (مهما كان المسمى الوظيفي لمن يعمل في مجالنا) هي مهنة تتراوح أسباب نضالنا من أجلها وتتداعى كثيرها وفقط قليلها يبقى يجاهد كل ما يحدث حولها مانعاً من سقوطِ آخر جنديٍ فينا كما سقط يوماً رايموند بومان* المشهور بكونه من آواخر موتى الحرب العالمية الثانية، ولذلك في هذه السنوات الأخيرة أصبحت أركن لسببٍ معيّن من بين مختلف هذه الأسباب، هذا السبب هو محاولتي لكي أكون شفافاً للغاية مع ما حدث في ذاتي وداخلي عندما أجالس مريضاً، أن أكون شفافاً بالتفكير وإذا شاهدت المريض مع زميل مهنة فحينها نتحادث سوية عن ما حدث في داخلنا، أن أجاهد لكي أستبصر بما حدث فيني من مشاعر وأفكار ولحظات ضياع أو استمتاع عندما كنت مع هذا أو ذاك المريض، هذه المكاشفة وطريق السفر المعبّد أحياناً والوعر في أحياناً أكثر مما يحدث داخلي في وسط العيادة العلاجية مع مريضي هو ما أظنّه بأنّه السبب الذي يجعل الاستمرار في هذا المجال هو أمرٌ لو قارعونا عليه بالسيوف فنحن أحفاد من قال أن الأعداء أمامنا والبحر من خلفنا، هذا بالطبع إن كان هنالك من ألقى لنا بالاً لنا ولمجالنا لكي يقارعنا عليه :)



لماذا هذا السبب بالذات مهم في ظنّي؟

 

أقول زاعماً بأنّ هذا السببَ مهمٌ لإنّه قد يكون هو السبب الذي جعل نبضتنا الأولى تتسارع انبهاراً لهذا المجال، هو ما جعل اللمعة الأولى لعملنا النفسي في أعيننا تُنافس اللؤلؤ في بريقها، هذا السبب من التفاعل الداخلي الذي حدث في دواخلنا عندما نتعامل مع المريض الأول والحالة الأولى هو السبب الذي قال لنا بدون أن نعلم بأن دِيار وأرض هذا المجال ننتمي إليها وفيها سنغرس عمرنا وعليها بنينا خيامنا.

 

هذا السبب كذلك هو مهم لإن انتفائه وعدم رعايته بشكل موعي تفاعلي هو ربما ضياع سبب المتعة من هذا الأمر كله، عدم محاولة التنقيب عن ذواتنا مع مرضانا هو انعكاس عن اضمحلال رغبة الوصول لمرضانا، في كل فترة زمنية طويلة يكون فيها عدم رعاية لهذا السبب مع مرضانا نحن نبني حينها لبنة جديدة في الجدار الذي يجعل التسلّق عليه صعباً للوصول لمرضانا وقبلها ذاتنا وكذلك الوصول للشرارة الأولى واللمعة الأولى في أعيننا عندما دخلنا المجال النفسي، هو ضياع العطر وطبقة القلب منه والتي إن جفّت ينابيع الحياة فينا فجفاف عطر هذا السبب هو لِبّ تعليل إدماننا على مجالنا، هذه الطبقة العطرية التي قيل فيما قيل عنها أنّها “الفن الذي يجعل ذكرياتنا تتحدث”.. إنّها القصيدة التي بإمكاننا استنشاقها!

 

 

وكيف يكون الوصول لتفاعلنا الذاتي مع مرضاناً أمراً ممكناً؟

 

هنا لا أظن أنّ هنالك إجابة تناسب الجميع، لعله هنالك طرق وجدتها في نفسي جعلت هذا السفر - وليس ذات الوصول للداخل من ذاتي - أمراً في المتناول، ربما من أهم الطرق في تجربتي الذاتية وجود الرفاق والمشرفين والمتدربين، أن نكون شفافين مع بعضنا والشفافية تستلزم بالضرورة قدراً يسيراً لا يُذكر من الأستاذية وقدراً شاهقاً موعياً من عدم إصدار الأحكام على بعضنا، أن نتحدث لإننا جلسنا هذه الجلسة لكي نتحدث عن ما شعرنا نحن فيه ونحن فقط عندما كنّا مع مرضانا، جلسات الإشراف المقصودة والتلقائية هي حديقة لطيفة لحدوث هذا السفر لذواتنا، أن يكون في العُرف التدريبي بشكل منهجي أو توارثي بالمجال هذه الثقافة من "فلنتحدث عن ما شعرنا فيه مع مرضانا".

 

 

 

الموضوع لا يملك حدوداً على خارطة لإنه شاسع كاتساع ذواتنا الإنسانية كعاملين بالمجال، وإن كان توكيدي لهذا السبب هو تحيّز معرفي منّي في هذه التدوينة القصيرة لكنه لا يجعل متعة العمل بهذا المجال والاستمرار في النضال والسجال والقتال في مرابعه فقط لمن يمتلك هذا السبب من السفر للذات، الأسباب كثيرة والمتعة للعمل بالمجال النفسي ليست واحدة، حتى ذات العطور ليست كلها طبقات وقلب ومقدمة وهكذا، هنالك عطور تملك خطاً واحداً من الرائحة لها أهلها ولها من يعشقها ويتمايل على رائحتها.



ما رائحة جفاف عطر الوصول لصوتك الداخلي مع مرضاك؟

من هم الرفاق الذين تشاركهم رحلتك لذاتك؟

متى كانت الرحلة الأخيرة؟ إلى متى لن تسقط آخر أسبابنا .. وآخر جنودنا؟

 

انتهى.

·       رايموند بومان هو بطل صورة الجندي الأخير المقتول في الحرب العالمية الثانية الذي يُظنّ أنه من آواخر من تم قتلهم في هذه الحرب

سامي سعد
طبيب تخصص دقيق في الطب النفسي العصبي من ملبورن - أستراليا
البورد السويدي في الطب النفسي العام
استشاري مشارك للطب النفسي في مدينة الملك عبدالله الطبية بمكة
Diplomat in CBT + ISTDP psychotherapies
Join