البُؤس في عدم النصح عند عدم الطلب!

تدوينة قصيرة تحدثت فيها عن مدى التعاسة المخفية والاستحالة العقلانية الناتجة من فكرة يرددها الكثير عن فضيلة عدم تقديم النصيحة عند عدم طلبها أو ايحاء الاستغناء عن نُصْح الآخرين لنا حفاظاً على صحتنا النفسية

سامي سعد

“Don't believe anything you read on the net. Except this. Well, including this, I suppose.” 

Douglas Adams

ما سأقوله يُمثّل وجهة نظري الشخصية بعيداً عن تخصصي في المجال النفسي، لكن رأيي الشخصي مبني على عدة خبرات منها خبرتي في المجال النفسي، كتبت هذه الجملة لأُبرّيء نفسي من ركوب تخصصي لقول رأيي وكذلك فيها دعوة للقارئ بأن يستخدم نباهته الخاصة مع ما أكتبه نظراً لاستحالة تبرئة نفسي من هذا الادعاء.


بالتأكيد قد قرأتم مقولات مُتكررة تؤكّد على ما هو مفروغٌ منه من فضيلة عدم تقديم النصيحة لأحد لم يطلبها أو كراهية أنْ يَنصحنا أحد بدون أنْ نَطلبَ مِنه النصيحة حفاظاً على أمزجتنا وصحتنا النفسيّة، هذه الأكليشة متكررة بل قد يزيدُ من توهجّها هو أنها قد تتكرر من متخصصين بالمجال المجتمعي والنفسي ومستشاري العلاقات وغيره من المؤثرين، وقد نجد في أنفسنا تصديق لمبدأ هذه المقولة خصوصاً في نَزْعتِنا الكارهة في أن نكون مَوضِع نُصح.


أقول -والله أعلم وبالله التوفيق- أنّ هذه الأكليشة هي لعنةٌ من لعنات الفردانيّة الطاغية، هي من الأمور التي لا محالة أنّها تضّر أكثر مما تنفع، هي من الـ pop psychology التي تنال بريقها من وهم استقلالية الإنسان عن غيره أكثر من صحة مقصودها وتطبيقاتها الواقعية، هي من الأساطير التي اُبتلِينا بها وابتلي المجال النفسي بمن يردّدها في أوساطه على رؤوس البشر، سأشرح بشكل مختصر في السطور التالية.


هنا جزئين من المهم فَرْد مفهومهم، الجزء الأول هو مفهوم كلمة (النُصْح)، النظرة ستكون قاصرة لو فهمنا النصح بأنّه الإبلاغ المباشر عن أي خطأ نقع فيه، النصح هو هكذا بالفعل لكنّه كذلك الإبلاغ بجودة ما نقوم به لكي يزيد، هو مَد يد العون للشخص بالطريقة التي نظن أنّها الأفضل له، النصح هو المثال الصامت الجيد وسط كومة الخطأ، هو الكلمة الشجاعة بين كهوف الخوف، النُصح هو الود المنطوق والغير منطوق، النصح هو التلميح والتصريح وما بين السطور وما عليها كذلك، النصح تُفسره أشياء كثيرة لكن من ضمنها هو وجود إحساس إنساني متسامي فيه نزعة من الخيريّة عند النَاصح تحتاجها البشرية وكذلك تواضع ضروري وحاجة ملحّة للتأمّل لدى المَنْصُوح يحتاجها المرء وقبله المجتمع لكي يفكّر ويتأمّل ولا تأخذه عزّة الخطأ وأنّ ليس للبقية الحق في ابداء الرأي والنقد ضدي.


لذلك .. من يردد عبارات عدم النصح عند عدم الطلب هو ربما يفهم النصح من باب التعالي عند الناصح أو التَشفّي عند وقوع الخطأ أو رغبة الظهور في موقع الخيريّة بعكس المنصوح، هذا الفهم قد يكون صحيحاً في مواقف لكنه جزماً ليس كامل مفهوم (النصح)، التعليق السلبي والايذاء اللفظي ليس نصحاً والخلط في المفهوم هنا متكرر ومزعج.  


الجزء الآخر من المهم فرده هو (الآخر) الذي ينصحنا أو ننصحه، الايحاء الذي يحضرُ في بالنا عندما نقرأ عبارات عدم تقبّل النصح من الآخر عند عدم طلبنا لها أنّ (الآخر أو الشخص الناصح) هنا هو شخص غريب عن المنصوح أو كذلك العكس وربما قد يكون صحيحاً في كلا الحالتين، لكن كذلك الآخر الناصح الذي يحضر في خيالنا وخيال من يقرأ هذه العبارات هي أولئك الناصحون الذين نصحونا في خبراتنا السابقة من أهل وأصدقاء وموجّهين، وفي الأغلب هذه النصائح لا تحمل ذكريات جيدة، فيصبح التعميم المخزي من كراهية تقبّل النصح من الآخر مهما كانت كينونته بناء على خبراتنا السابقة المؤلمة بالتحديد عندما نصحنا أحدهم.


كل تجّمع واختلاط بشري لا يتبادر أفراده -وكذلك بالطبع مؤسساته- بشكل فردي أو قانوني على تحسين بعضه بالمفهوم الكلي من (النصح) إلا في حالة طلب الطرف الآخر وموافقته على النصيحة هو تجمّع بشري ممتلئ بالعزة بأخطائه، مجتمع يكون أفراده غير قابلي لرؤية ما هو بعيداً عن نظرهم ومحدودية قدراتهم، هو تجّمع يضع شروطاً على كل خطوة ومصيدة على كل رغبة تحسين وسلسلة من حديد نوجهها على كل من يريد أن ينقذه من الغرق في نيران أخطائه، هي نصيحة ترى الأنانية هي الأصل، هذه الإكليشة تقتل الداعي في أن نكون (جميعنا) في حال أفضل لكنها تدعو بشكل غير مباشر أن نكون أفضل فقط كأفراد ولا داعي للقلق على البقية والمجتمع والسياق الذي يعيش فيه هؤلاء الأفراد، حتى الدعوة لكي تكون (أفضل) ليست واضحة للغاية لإنها نصيحة تدعو الشخص أن ينغلق فقط على نفسه بما فيه من خير أو سوء، هي عبارة تجدها تتردد في ذات السياق الذي تتردد فيه عبارات أخرى مناقضة للحياة مثل عش وحيداً واعتزل الناس ونصائح المداومة على الكهوف.


هذه العبارة بالرغم من انزعاجي الشديد منها لكنني اعترف أنّها عبارة تحمل فكرة مريحة للغاية، من يردّدها من المتخصصين وخبراء العلاقات هو يّريِحُ نفسه عندما يطلب من الآخرين عدم السماع لنصيحة الآخرين عنهم، هذا المختص يريح نفسه من البحث عن سبب هذا رفض الفرد أمامه عن قبول النصيحة وتعليلات ذلك والتعقّد العلائقي الناتج عن هذا الانزعاج من نصح الآخرين لنا، هو الكسل عن التعمّق أكثر لإن البتر هنا أسهل.


 هذه العبارة التجارية المستهلكة من عدم تقديم أو تقبّل النصح من الآخر عند عدم طلبه لها في الحقيقة لا أظن أنّه بالإمكان ذهنياً أو منطقياً أن تعيش في أي تجمع بيولوجي حيوي، النبات في عطشه تجد جذوره تبحث عن من يساعدها ويزوّدها، الخلايا التي يصيبها الاعتلال في الجسم تجد الجهاز المناعي في باقي الجسم يتداعى لها ويبحث عنها لكي يُصلح العطب فيها، من يسقط حينما يسقط قد يردّد عبارات كثيرة من الحسرة لكن من أبرزها ندمهُ على عدم اتباع من نصحه أو تكدّره من عدم وجود من نبّههُ أو نصحه، الرفاق القريبين من دائرتنا قد يزداد اندماجنا بسبب تصالحنا على العطب الموجود فينا لكننا عندما يتجاوز العطب دائرة ما اتفقنا عليه ولو بشكلٍ غير مَوعي؛ فإننا ينالنا العجب والاستنكار والنصح على الحذر وهكذا يستمر الود.


ختاماً، هذه (النصيحة) التي تنصح بعدم النصح أو عدم تقبّل النصح هي كما تشاهدون هنا في هذه الجملة تناقض قول صاحبها، علينا -بالذات كمختصين في المجال الاجتماعي والنفسي- أن نتحدث أكثر عن ثقافة النصح لا ثقافة عدمها، أن نتناول عن الكيفية لا عن عدمية التناصح، نثقّف عن قابليتنا كلنا للخطأ ومراجعة الذات عندما ننصح أو نُنصح.

Edward Jenner was was a British physician and scientist who pioneered the concept of vaccines including creating the smallpox vaccine, the world's first ever vaccine. Edward in this painting Advising a Farmer to Vaccinate His Family.

سامي سعد

طبيب متدرب في زمالة الطب العصبي النفسي بمستشفى ملبورن الملكي - أستراليا

البورد السويدي في الطب النفسي

استشاري مساعد للطب النفسي في مدينة الملك عبدالله الطبية بمكة

Diplomat in CBT + ISTDP psychotherapies

Join