شعبويّة ترتدي معطفاً!
خاطرة قصيرة عن سطحية غير مقصودة في هويّة المجال النفسي
على ما يبدو أنّ الخطاب النفسي أحياناً يقع بين مطرقة قلق اغراء خيرية التوعية ونهم الشهرة من جهة وسندان اجهاد وأحياناً استحالة تقديم مادة توعوية (علمية بطبيعتها المعقّدة) من جهة أخرى، هذه المنطقة لابد أن تكون مجهدة بطبيعة استحالة وجود منطقةٍ للوسط فيها، مجهدٌ أن أكون بسيطاً سهلاً في خطابي لمن أريد توعيتهم عن شيء غاية في التمدد والتعقيد وعدم اليقينية، هذا التنازع بين هذه الجهتين ربما اضطّر الخطاب النفسي إلى شيء من السطحية المرغوم عليها، وكما نعلم فإنّ كل شيءٍ تم تسطيحه فهو غير مستساغ وبالمجال الصحي هو أمرٌ خطر ويحتمل تبعات كثيرة.
كيف لك أن تقدم مادة توعوية مبسطة وسهلة للعامة عن شيء لا يمكن إدراكه وحصره لطبيعته البشرية قبل العلمية؟
هذا الأمر جعل من هم على الواجهة التوعوية في وضعٍ من الاضطرار في أن تكون مادتهم التوعوية تدور حول الأمور البسيطة سهلة الفهم من علم النفس والطب النفسي -والتي ليست بالضرورة تُمثّل حقيقته- وبالتالي سيحدث نوعٌ لا مفرّ منه من تسطيح ما يتم تقديمه للناس.
كذلك من يقدم المادة التوعوية سيضطرّه هذا النزول في تسطيح لغته ورغبته الطيبة في إفهام كل الناس على أن يكرر على مسامعهم ما هو متسقٌ مع ثقافتهم وهذا سيجعله يدور في أمور سطحية أو من زبد ثقافة البوب سايكولوجي التي يتم تداولها في المواقع بدون تأصيل علمي أو احتياط لضخامة مساحة اللا يقينيّة في مجالنا النفسي.
وما الناتج من هذا التسطيح؟
الناتج هو نوعٌ من الفكرة الجمعيّة العامة عن مجالنا تحملُ كماً ليس بالقليل من سطحية الأفكار والنقاشات والتحليل والعلاجات وخلافه، تصبح هذه الرسائل والنصائح ولغة العامة هي هويّتنا وما نُعرف به، هنا قد يتحول المجال النفسي ولغته -ونحن كأشخاص ومدارس من ورائه- لشيءٍ من مزيج دورات الطاقة والكوتشينغ والوعظية وكذلك ضربٌ من خالف لكي تُعرف (والتي هي من مشاهد أي تجمع شعبوي مليء بالسطحية)، أحد الأمثلة الحديثة قبل فترة ليست بالطويلة قرأت عن مقطع بأحد المؤتمرات العلمية النفسية في منطقتنا وكانت الرسالة الرئيسية في المحاضرة العلمية هي رسالة مفادها “سعادتك هي مسؤوليتك الشخصية”، هذه أظنّها رسالة سطحية بإمتياز ولك أن تتخيّل أنّها في مؤتمر علمي وليست في مكان عام أو حساب تويتر.
كنت أفكر في سرديّة العصا والجزرة عِوضاً عن سرديّة المطرقة والسندان، لكن في حقيقة الأمر لم أستطع لإن فكرة العصا في هذا المثال يحتملُ الخوف من لذّة مردود الجزرة وكما يبدو لي أنّ من غاص في سطحية توعيته بالمجال النفسي هو في الأغلب لا يهمه عصا تجاوزاته العلمية في طرحه.
هذه التدوينة القصيرة هي كذلك نوعٌ من الخطاب وهي أيضاً لا تنفكُّ عنها أن تقع بين مطرقة ما ذكرته وسندان ما أخافه، حسبي أنّها محاولة تحليل من مكانٍ مختلف وليس بالضرورة من الأعلى.
سطحية الخطاب تتداعى بنقدها ودعم ما يعكسها في التوعية وما بين هذا وذاك من الروح العلمية في أورقة عنابر الصحة ودهاليز المؤتمرات.