الطبيب المحجور (١)
تدوينات قصيرة في طولها .. طويلة فيما بين سطورها .. في ظاهرها فرحة وفي باطنها كثيرٌ من احتساب!
صَبراً لَعَلَّ الَّذي بِالبُعدِ أَمرَضَني
بِالقُربِ يَوماً يُداويني فَيَشفيني
ابن زيدون
التدوينة (١)
ما قبل كل شيء!
التدوينة (٢)
معايير المطار الأخلاقية
قد يبدو ما سأقوله متحيزاً ولكنني أملك ظناً يصل لشبه اليقين بأنّ هنالك بعضاً من المعايير الأخلاقية لأي مجتمع من الممكن قياسها في المطار وربما أوضحها هو كيف مقدار (الحكمة + الأناة) في التعامل من موظفي المطار مع أطفالي، لم أقل اللطف و لم أقل التضاحك والتمازح مع الأطفال -وهي أمور لطيفة ولها مدلول أخلاقي أصيل- لكن أقول الحكمة الغير مقصودة والأناة الموعية التربوية في تعامل البالغ مع الطفل، مثال كيف صبرك مع طفل ذو أسئلة كثيرة أو آخر ذو حركة زائدة أو طفل قام بتصرف طبيعي لكنه لا يناسب الموقف، كيف الرد وكيف التعامل وكيف الحكمة بل كيف أحياناً الحزمة الحكيمة تكون حاضرة ومطلوبة وكيف التجاهل يكون أفضل تصرف لإعطاء مساحة للوالدين للتحرك والتوجيه.
في تجربتي الأسترالية كانت الأمور مختلفة، بدون مبالغة تكاد تكون الحدود الأسترالية والمطارات الأسترالية هي الأكثر صرامة وحذراً في تحرزات كوفيد، محطات متوالية وأسئلة متكررة واحتياطات تصل لدرجة الفزع منذ نزولنا من الطيارة لحين دخولنا لغرفة الحجر، وصلت الطائرة فجر اليوم وكان ابني كنان ذو الستة سنين للتو استيقظ من نوم متقطع قصير، أن توقظ طفل في هذا العمر وفي هذه الظروف ولديه حماس فظيع للسفر لأستراليا حينها عليك أن تتوقع منه نشاط غريب وزلات مقصودة وغير مقصودة واستظرافات ظريفة وأخرى حتى والديه لا يفهمونها، نعم ابني كنان كان محل تجربة لكيف تعامل الموظفين معه وتعاملهم يعطيك انطباع عن المجتمع الذي يعيشون فيه، في وسط هذه التحرزات ومعها التفاعل الفسيولوجي لطفلي حينها الاختبار يكون أصعب، بالمجمل كان هنالك نجاحات وسقطات وحكمي متحيّز لكن ما زال المثال السويدي في ذاكرتي هو الأفضل.
وسط هذا التنظير مني كان الأكثر فشلاً هو أنا بلا شك، بالنسبة لي كانت تفاعلاتي وصبري على المحك وأسوأ، أحد المواقف الظريفة التي من المحال أن انساها أنّ أحد الموظفات عندما دخلنا المطار مباشرة من الطيارة سألتني: هل لديكم أي أعراض مثل الصداع أو الحرارة أو الكحة أوخلافه، إجابتي كانت النفي لإنه بالفعل لا توجد لدينا أعراض، هنا كنان مع وضعه في تلك اللحظات لابد أن يترك بصمته، قال لها أنه يكح وأيضاً يكح كثيراً، قلت لها لا ليس لديه، المصيبة استظرافه زاد حينها وقام بإعطائها كحتين مفتعلتين برذاذ متطاير كادت أن تقفز منه الموظفة للخلف بسببه، الموظفة أعطتني تلك النظرة المرتابة وعرقي يتصبصب وأقول لها بالتأكيد ليس لديه كحة .. تعرفي الأطفال :)
لكم أن تتخيلوا كيف كان تعاملي مع كنان بعد مرورنا من عندها .. بالتأكيد معاييري لم تكن في أفضل أحوالها :)
التدوينة (٣)
شاوشانك ممتلئ بالـ
Awesome
المشهد كالتالي؛ غرفتين ملتصقتين بينهما باب ثقيل لا يمكن جعله مفتوحاً طوال الوقت، المساحة الحرة من كلا الغرفتين لا تتجاوز ١٥ متر مربع، مع ٤ شنط كبيرة وواحدة صغيرة وعربية أطفال ضخمة بمقعدين حينها تصبح المساحة الحرة في حجرنا الصحي بالكاد يكفي للأوكسجين الذي نتنفسه، ولإن الدراما لا تأتي هكذا ناقصة السطور فإنّ هنالك نافذتين بالغرفة لا يصلهما الشمس والمنظر من النافذة كما ترون بالصورة في الأسفل جدار مصمت، صامت وقريب للدرجة التي تشعر أنه الجدار الرابع في غرفتنا، أنا وجدار الوقت أمامي وزمان الصمت بيننا، هل البدر أتاه الهام أبياته من هكذا حال لكي يصدح بها طلال.
١٤ يوم سيكون هذا الحال في هذا الحجر، ١٤ يوم تبحث عن الخروج من هذا الصندوق، ١٤ يوم ونحن للغاية مقتربين من بعضنا وهذا ليس بالأمر الجميل على الدوام، ١٤ يوم ما زلنا في دقائقها الأولى، ١٤ ليلة أناضل فيها طفلين ذكرين بعمري ٦ و٤ سنين يملأهم نشاط الدنيا وهذه المناضلة الأخيرة لوحدها ملحمية في مصيبتها، حتى قبل أن ندخل إلى الفندق ونحن بالباص شاهدنا عائلة خرجت للتو من الفندق وكأنها كانت تنظر إلينا بشفقة يصبغها تندّر على مصيبتنا القادمة ونحن في هذا القفص .. أو هكذا ظننت أنهم يشعرون بذلك.
مرّت الساعات الأولى وبمواساة كاذبة كنّا نقول “هانت .. بقي ١٣ يوم وبعض يوم”، حينها مع هذه العبارات وهذه الظروف تذكرت مورجان فريمان في شاوشانك وهو يقنعنا في آسى عن مأزق الأمل عندما تكون محبوساً، الأمل على ما يبدو كان ذلك الشيء الذي يجعل كل المشاريع التي خططت القيام بها مسبقاً خلال حجري هي مشاريع ثقيلة جداً، لماذا أقوم بكل هذا في هذه المساحة المختنقة والأمل يحدوني للخروج من هنا لذلك من المثبط تماماً محاولة محاربة هذا الأمل الأزموي لإن الخروج من هذا المأزق مسألة وقت .. مسألة ١٤ يوم، هذه مصيبة الأمل بالفعل على الأقل في حالتي.
المضحك أن أكثر كلمة ترددت اليوم داخل الغرفة هو كلمة طفلي عمّار وهو يردد Awesome + Australia is awesome، حبيبي منتشي بالمكان المختلف وبالألعاب والكتب الجديدة التي فتحناها للتو من أجل الحجر، هنا تذكرت أيضاً مقولة لفورمان في فيلم شاوشانك عن كيف علينا أن نبقى مشغولين حينما نكون على قيد الحياة .. وكذلك حينما نعيش لحظات الموت!
نعم قبل أن أختم هذه التدوينة .. أرسلت لهم شكوى لتغيير الغرفة، الحمقى يبدوا أنهم لا يملكون أطفالاً!
Get busy living, or get busy dying
Ellis Boy "Red" Redding From SHAWSHANK REDEMPTION
سامي سعد
طبيب متدرب زمالة الطب النفسي العصبي في ملبورن
استشاري مشارك للطب النفسي بمدينة الملك عبدالله الطبية بمكة المكرمة
بورد الطب النفسي السويدي
دبلوم علاج ذهني سلوكي وعلاج مكثف قصير للمشاعر