لماذا نحن هكذا بعد الابتعاث؟

قراءة نفسية و فكرية في مرحلة ما بعد البعثة بعد ٦ سنوات من الستوكهولميّة

معلومة ربما لا تهمك كثيراً لكن الأنا في داخلي أجبرتني على كتابتها: كل الصور المستخدمة في هذه التدوينة هي من تصويري الشخصي و حرصت أن تكون جميع الصور من ستوكهولم، نعم التصوير هي مشاغبة أمارسها هروباً من ممارسة أشياء أخرى!

أنا رجل في الثلاثينيات من العمر، ربيع العمر يتناولني و لا أدري إلى متى و أنا سأتناول من العمر، في أغسطس الماضي أتممت ستة أعوام من هذا العمر في صقلية الدول الإسكندنافية ستوكهولم عاصمة السويد، ستوكهولم هي بلدٌ -أقولها و التعصب الأعمى يطالني - لو هاجر منها الشخص لغيرها من بلاد الدنيا فالافتقاد لها مصيره لا محالة، هي هكذا كانت بديعة و لعله هذا سبب بؤس كل من فارقها، لكن لا تحذروا كثيراً فالحياد في سطوري القادمة أبتغيه و لو كانت بشريّتي مانعة من أن أصل إلى قمة الحياد.


هنا في هذه التدوينة سأكتب هنا تجربتي الشخصية في مرحلة بعد الابتعاث عندما عدت هنا للوطن، سأكتب عن تغيراتي و زلّاتي و تحيزاتي النفسية و الفكرية التي حدثت من لحظة نزول قدامي لأرض المطار بجدة إلى تاريخ نشر هذه التدوينة، لكنني حاولت أن تكون القراءة هنا عامة لنا نحن معاشر العائدين من الابتعاث، لماذا نحن هكذا في أغلبنا ربما متحمسون أو ساخطون أو متكيّفون أو نالنا الاستسلام.

إذن هي محاولة للخروج بقراءة عامة لمن عادوا بعد مرحلة الابتعاث، هي محاولة تعميم و التعميم كعملية فكرية يراها البولندي النفساني جوزيف جاسترو عملية فكرية بالغة في الصعوبة و ليس كما نظن تهمة سهل الرمي بها، أن تخرج بمحاولة لاستنباط متشابهات من تفاصيل كثيرة هي عملية مجهدة أكثر من التعمّق في جزئية صغيرة واحدة، التعميم لم يكن خطأً فكرياً لكن اساءة التعميم هي الإشكالية في الأغلب.


دعونا نبدأ مع النقاط التي كتبتها و قاتلت سطورها حتى اجعلها أكثر اختصاراً..

ما الهدف من تدوينتي

مؤمن أن جزء من تعاريف وطن الإنسان هو المكان الذي تقع فيه كنبته و ربما مكتبته، هو الاستقرار و وجود الروتين المنتج، لذلك تناقل الكنبة هو ربما تناقل لجزء من الوطن في داخل الإنسان و بشكل أوضح هو تزعزع لإستقراره و سكينة روتينه، هذا التناقل بلا أدنى شك هو عبارة عن فترة مليئة بالضغوط ليست فقط على المبتعث بل على أسرته و أطفاله و في حالتي كانت هذه النقطة في صميم أزماتي الحالية، هل تعلم أن الانتقال من شقتك لشقة أخرى هو أحد عوامل الخطورة للإكتئاب لعدة أفراد بالأسرة، لذلك الإنتقال من بلد لبلد ليس بالضرورة متعة سياحية بل هي على المبتعث مرحلة فيها امتحان و أزمات مخيفة، لذلك أفكار و مشاعر المبتعث عند رجوعه ليست في أفضل أحوال استقرارها و أنا هنا أشرح بشكل أكبر و أبرّر كذلك بشكل غير مباشر.

محنة الإدراك!


حسناً هنا سأكتب عن أهم أجوبة سؤال تدوينتي في هذه الجزئية، أمارتيا سن الفائز بجائزة نوبل للإقتصاد في كتابه المشهور بفكرة العدالة كتب في مقدمته ربما اللب من كل صفحات كتابه المتجاوزة لخمسمائة صفحة، حيث قال الناس التي تتحرك لتغيير واقع لا يدفعها لذلك فكرة رغبة الوصول للكمال المطلق(و لو كان لديهم تصوّر لهذا الكمال)، لكن ما يدفعهم و دفع العظماء بالتاريخ لتحسين الأمور هو علمهم و إدراكهم بإمكانية رفع الأمور و تحسينها، الإداراك بالإمكانية هي كلمة السر هنا في ظن أمارتيا، نحن نتحدث عن شريحة المبتعثين التي هي فقط لا تدرك ذلك و لكنها عاشته في يومها و تعاطت معها بل كانت جزء من واقع من الأمور التي ربما وصلت في نظرهم للكمال المطلق، لذلك كلامهم و رغبتهم في الزوبعة لكل مكان يذهبوا إليه هو أمرٌ عائدٌ لإنهم على إداراك و خبرات سابقة بوجود (الإمكانيّة) للتحسن، فكيف إذا اندمج هذا الإدراك مع الحب لهذا الوطن و ترابه و أهله، حينها الأزمة تصبح أوضح و أكثر نزعة للقيام بشيء.


على سبيل المثال في كل مرة أرمي علب بلاستيكية أو كراتين خشبية أو ورقية أو زجاجية في سلة المهملات والله ينالني القهر على ذلك لإنني حرفياً في الستة سنوات من حياتي الأخيرة كنت يومياً أقوم بذاتي بترتيب هذه النفايات لإعادة تدويرها، الألم هنا أن الأمر كان بسيطاً و (أدرك) و متيّقنٌ أنني قادر على ذلك و المعطيات بمجتمعي قادرة على إنشاء ذلك لكن لا أستطيع فعل ذلك فأجدني أحرص بخصامٍ أحياناً على التقليل من الأكياس البلاستيكية في كل مرة أتبضع و هكذا (و مثالي هنا مبسّط و إلّا أزمة الإدراك تحدث في مستويات كبرى)، أن يحصل انكسار لهذا الإدراك في داخل العائد من الابتعاث هو أمرٌ في غاية السواد لحماسه و ذات كينونته و رغبته في التحسين، بل من المهم محاربة حدوثه و احياء هذا الإدراك بالتحسّن لإنه هذا هو أساس حياتنا بأننا نعمل و نعمّر هذه الأرض رغبة في تحسينها.

حساسية الحضارات و الحنين للماضي


أن تعيش في مجتمع تدرّج منذ زمن في سلّم الحضارة فإنك ترى في معظم أطيافه حساسية مرتفعة نحو الملامح الدون أو الغير جيدة أو الغير مقبولة من قيم هذه الحضارات (قلت المعظم من أطيافه و ليس الكل)، أن تعايش في يومك جزئيات متراكمة من المشاهد الجيدة من مجتمع اعتنقها منذ عقود و يربي عليها ابنائه فإنك ستعاني في مجتمعات أخرى ما زالت تكافح في تأسيس ما دونها من هذه القيم و قد يقتات بعضها على الدون منها، هذه الانتقاليّة بين المجتمعات ليس من السهل بتاتاً تجاهل مفعولها على العائدون من ابتعاثهم، له إيجابياته بالفعل لكننا كلنا سنعاني في انتقاليته و معاناة بعضنا بارك الله عليه بأن جعلها انتاجاً للتحسين، و اشكالية بعض من أراد التحسين ظنّه بأنه بما اعتنقه و رآه هنالك في بلد ابتعاثه سيغير المحيط حوله هنا كله بها و يريد من الكل أن يحذو حذوه متناسياً كمية التعقيد الأنثروبولوجي في فكرة نشأة حضارة جيدة و الاختلافات بين الحضارات.

Join