التدريج من وإلى العمل كأسلوب حياة -٢-
تفتح الممرضة باب غرفة الدكتور بهدوء. تتقدم بخطوات خجولة إلى مكتبهِ. تُقاطع حديث الدكتور وهو يشرح لي الأسباب المحتملة لغزوات نزلات البرد المتكررة في فترارت قصيرة متقاربة. تدنو منه لتخبره بأنّ نتائج تحليل المختبر جاهزة للإستعراض. يُمسك الدكتور نظارته ويضعها على وجهه بثبات ويلتف بكرسيه نحو جهاز الحاسب الآلي. يتمعن بنتائج التحليل ويشير بأصباع الإتهام على السطر الذي يبين فيه نسبة فيتامين دال بجسمي. “مناعتك أضعف من طفل رضيع“ يقولها ساخرًا. نقص حاد في فيتامين دال كان كفيلًا ليجعل من جسمي مرتعًا لأي فايروس يريد التمرد. يتصفح باقي التقرير ليصل إلى نسبة الكرياتينين المضللة باللون الأحمر كما كان حال نتيجة فيتامين دال، ومن ثم يسأل، أنت متزج؟ أجبته بلا وتباع حديثهُ عن فيتامين دال.
التحضير
مراحل التحضير والتجهيز لهذه التجربة بدأت حيث انتهى الآخرون. تصفحت العديد من المقالات ومقاطع اليوتيوب لأناس يشاركون خبراتهم وآرائهم حول التجربة نفسها. لم أجد الكثير من التجارب المحلية، وهذا كان كفيلًا لدق ناقوس الخطر. طرقات غير مهيئة للسيارات في المقام الأول، وحوش خلف عجلات القيادة لا تأبه لأي كائن حي يشاركها الطريق. وقائد المركبة المتزن هنا ليس لديه أدنى احترام لعلامة قف. الكثير من العوامل التي تجعل من هذه التجربة طريق مُعبد إلى مصيدة موت. تضاعفت المخاوف حين قرأت وصف يصف هذه التجربة بالجنونية في احد المنتديات التي يتبادل فيها العمالة الوافدة في السعودية تجاربهم وخبراتهم حول الحياة والعمل هنا في السعودية.
الميزان لا يُرجح أيّ كفة. ففي كِفة تحمل المخاوف والمخاطر والكفة الأخرى تحمل الصحة النفسية والبدنية. التجربة هنا كانت خير برهان. واصلت مراحل التحضير بتجهيز الأدوات التي ستساعدني لأحصل على أسهل وأمتع تجربة ممكنة. الأدوات هنا استطيع تصنيفها إلى صنفين: الأول أدوات السلامة المرورية الأساسية والصحية وتحتوي على التالي:
ضوء خلفي
ضوء أمامي
خوذة رأس
قناع لتنقية الهواء
نظارات واقية
لباس يحافظ على انسيابية الهواء
توجد أدوات سلامة أخرى، لكن اكتفيت بهذه الأدوات الأساسية. أما ادوات الصنف الآخر فتختص بالمحافظة على النظافة الشخصية. لا تود تنفير زملاء عملك عنك بسبب سوء العناية الشخصية.
علبة صغيرة قابلة لإعادة التعبئة للشامبو
وأخرى لمنظف الجسم
أيّ منتج آخر تستعمله مثل مرطبات الوجه والشعر
منشفة شاطئ سريعة الجفاف وسهلة للتنقل
غيار ملابس. تستطيع تخزينها في دولاب مكتبك في العمل حتى لاتضطر حملها معك بشكل يومي.
شنطة مناسبة لحمل كل هذه الأدوات وأي غرض آخر تحمله بشكل اعتيادي مثل حاوية الغداء، الحاسب المحمول وغيرها.
التجربة
متسلحًا بكل هذه الأدوات خرجت إلى الشارع حاملًا الدراجة بكفي الأيمن. أضبط الإعدادات في احد تطبيقات متابعة النشاط الرياضي (Strava)، أتاكد من سلامة الدراجة وأضيء أضواء السلامة الأمامية والخلفية. ألبس الخوذة وأحكم شنطة الظهر، وأنطلق.
اليوم الأول كان عنوانهُ الحذر وجس النبض. متوسط السرعة بلغ ثمانية أميال بالساعة. الطرقات بدت مخيفة على غير عادتها. السيارات بدت لي كرصاصات تتقاذف يمنة ويسرة. وبكل حذر ألتفت إلى الخلف وأمد يدي إلى الجهة التي أريد الإنتقال إليها. أصابعي لا تُفارق المكابح احترازًا من أي خطر مفاجئ. ألاصق حواف الرصيف مهما كلف الأمر، متسمكا برباطة جأشي وما تبقى من ثقة لدي، في كل مرة تتجاوزني سيارة. برّ الأمان بالنسبة لهذه الرحلة كان الثلث الثالث في رحلة الذهاب (والثلث الأول في رحلة الأياب). هذا الثلث عبارة عن رصيف مشاة واسع جدًا وفيه مسار للدراجة. عند وصولي إلى هذا الثلث ترتاح فيه اصعابي وأزيد من سرعتي. هنا لا أتعرض لتحرش السيارات مطلقًا. هنا مكاني الآمن.
يمرّ اليوم الأول وأنا سليم معافى. جسدي لا يزال متلاصق وأطرافي لم يمسسها السوء. كان واضحًا لي مدى تهويلي للأمر. نعم، في فجرّ اليوم الأول لم أستطع التوقف عن التفكير بخطورة هذه التجربة. لا تمرّ خاطرة إلا وتصرخ بمصير الهلاك الذي أمشي إليه رغبةً وطوعًا. تلاشت هذه الأفكار مع قادم الأيام. وكل يوم جديد يزداد حذري ويقلّ توتري.
مع قادم الأيام انتبهت لإرتفاع معدل درجات الحرارة، وهذا لهُ تأثيرهُ المباشر على النظافة الشخصية للجسم. ولأجل ذلك قمت بتعديل طفيف لروتين الصباح. أصبحت أستحم وأفطر بالدوام بدلًا من البيت. بطبيعة الحال لا توجد في منشئات المكان الذي أعمل فيه أماكن مجهزة للإستحمام، إلا أنني، وبمساعدة احد عمال الصيانة في المبنى، تمكنت من ايجاد حلّ في مكان مناسب جدًا.
عملية التنقل بالدراجة تزيد انسيابية مع كل يوم. قلقي تلاشى تمامًا حتى مع ازدحام حركة السير. بدأت أفهم اللغة التي يتحدث فيها الشارع، ليتحسن بذلك تواصلي مع كل من يستخدمه. كما أوفت هذه العملية وعود غيبّها الكسل.
إتلم المتعوس على خايب الرجا
ستة أشهر مضت منذ تلك اللحظة التي قررت فيها الذهاب إلى نادي رياضي لأسج فيه. يسألني المُدرب عن مدة الإشتراك وأجاوبه وبكل حماسة: سنة!
شهر كان كفيل لينضب هذا الحماس ويختفي. في ستة أشهر كاملة لم أذهب إلى النادي إلا لمرتين فقط. رسائل شوق وعتاب يُرسلها فريق تسويق النادي تخاطب رعونتي وعدم مبالاتي والأهم من ذلك كسلي. اختفت هذه الرسائل، واختفى النادي من معالم طريقي كذلك. أنا المتعوس وعزيمتي كانت خايبة الرجا.
هذا كلهُ تغير في اليوم الذي بدأت هذه التجربة. في الأيام الأولى لاحظت مروري بجانب نفس النادي الذي خطوت فيه خطواتي الخجولة قبل ستة أشهر. أتذكر ملامح المكان وألوانه، كما لو أنها لوحة تُعيد رسم نفسها. قررت أزور الصديق القديم، وأُحلل ثمن صداقتنا الباهض. كنت في أتم الإستعداد. لست بحاجة إلى تبديل ملابس ولا إلى حتى الإحماء. مجرد تغيير بسيط في مسار العودة كان كافيًا حتى أواظب على النادي. الفضل بالطبع يعود إلى الدراجة.
فضل الدراجة تخطى الصحة البدنية والعقلية والنفسية، فوصل حتى إلى الصحة الإجتماعية. خلال فترتي القصيرة في التدريج تمكن من التعرف على اصدقاء جدد، الكثير والكثير منهم.
ننتظر جنبًا بجنب خلو الطريق من المركبات لنعبر الشارع. محتمين خلف خطوط بيضاء لا يبدو لها أيّ معنى أو سبب لرسمها. لا تعطي للطريق قيمة ولا حتى أيّ نوع من الجمال. يبدو الأمر أنهُ هدر للأموال وحسب. يقف بجانبي رجل طويل القامة وذو ملامح أوروبية. يتحدث مستاء من عدم وقوف أي مركبة لما يقلّ عن خمسة دقائق متواصلة: “لنّ يتمكنوا من تنويع أي شيء طالما لم تتغير ثقافتهم“.
للتدريج فوائد عظيمة لا أستطيع حصرها جميعها هنا. في تجربتي القصيرة تمكنت من كسب عادات حسنة وانهاء عادات سيئة. كتبت في هذه التدوينة البسيطة عن دافعي لخوض هذه التجربة، التجهيزات التي قمت بها، وأهم المصاعب في الأيام الأولى، والمكاسب التي حصلت عليها. التجربة ليست صعبة ويمكن تطبيقها بسهولة اذا أخذنا بالحسبان عاملي المسافة وصعوبة الطريق. المسافة التي أقطعها ليست بالطويلة والطريق ممهد وسهل في أغلبه وهذا يساعدني في مواصلة هذه التجربة لقادم الأشهر. مسارات خاصة بالدراجين كانت ستساعد من رفع مستوى الأمان، إلا أنني أراها غير مهمة مطلقًا. المشكلة لا تكمن في البنية التحتية وانما تكمن في احترام الطريق وآدابه سواء من قبل الدراجين أو قائدي المركبات. إلى لحظة كتابة هذه التدوينة قطعت ما مجموعه ٢٢٠ كيلومتر على الدراجة في ثلاثة أسابيع. ولله الحمد لم أواجه أيّ خطر يذكر. بينما الأمر الذي يُزعجني كثيرًا هو عدم احترام حقوق المشاة. هي أرصف قلائل المهيئة للمشي، عدا الإعتداءات التي تحدث بحقها شنيعة ولا تدلّ إلا على احترام غائب وثقافة لن نستطيع من خلالها الوصول إلى ما نصبوا إليه.