عقدة الإستعلاء البشرية

في ظهيرة يوم سبت ربيعي،وبعد المجهودات العظيمة والإنجازات الأعظم التي حققتها خلال أسبوع يكاد يوشك على الإنتهاء، قررت اكرام نفسك ومكافئتها. تقرر الخروج من المنزل والذهاب إلى أفضل بيت شواء تطاله عجلات سيارتك، مطعم يختلف تمامًا عن المطاعم وبيوت الشواء اللتي تتردد لها. تُشعل تطبيق فورسكوير أو خرائط جوجل وتبدأ عملية البحث. في خيارات البحث تأخذ المؤشر تحت علامة الدولار الواحدة وتسحبه إلى العلامة ذات الدولارات الأكثر. أنت فعلًا تود من إكرام نفسك. تَشُدكّ المطاعم في أعلى قائمة نتيجة البحث. المطاعم ذات الأسماء الرنانة، التي يسبقها وصف أو وصفان. المرصعة بعدد نجوم معينة أو برقمٍ يتبعهُ رقمٌ عشري، غالبًا، يدل على مدلول تُدركه جيدًا. في حين لا تعرف معناه الحقيقي، وليست لديك أدنى معلومة عن كيفية وصول هذا الرقم إلى ماهو عليه الآن. عمومًا، هذا الأمر ليس من اهتماماتك، حيث كل ما تهتم فيه الآن ان هنالك عصى سحرية قدمت لك القائمة اللتي تحتوي على مطعمك المنشود. مرتاح البال مطمئن الضمير عن عملية البحث وعن نتيجتها.

تطبيع الإستغلال البيئي

تصل للمطعم، النادل يأخذك لطاولة كراسيها منجدة بجلد فاخر. فاخر لدرجة، وبتمعن بسيط، تستطيع شم رائحة جُثة البقرة التي سُلخ منها جلدها عن لحمها. واذا اصغيت جيدًا، تسمع دويّ صرخاتها وهي تُجرّ إلى الصاععق الكهربائي بواسطة سير في احد خطوط الإنتاج. مرتاح البال مطمئن الضمير، لا شيء يزحزح تنفيذك لهذه العملية مطلقًا. يسحب النادل الكرسي، تجلس وأنت تتوق للقراءة. اليوم أنت هنا لا من أجل قراءة قوائم مالية بحاجة إلى مراجعة وتدقيق، ولا إلى أسطر برمجية كتبها زميل لك في الفريق بحاجة إلى دمج. أنت الآن ستقرأ قطعة لحمة الريب-آي والباربكيو والأضلاع المدخنة وحتى عن ساندويتش الستيك المحضر على طريقة مدينة فيليديلفيا الشهيرة. يأخذ النادي طلبك ويسألك سؤال العمر: ”ويل دنّ؟” مرتاح البال مطمئن الضمير، ترد: “ميديم رير بليز”.


هذا الصورة تتكرر باليوم اليوم عشرات وعشرات المرات. تحدث وأنت في كامل وعيك ومن أخمص قرارة نفسك المطلقة. وفي أحيان أكثر تكون نتيجة عملية روتينية يقوم بها عقلك اللاوعي. فنصل إلى ما أُطلق عليه “تطبيع الإستغلال البيئي“. عندما نقوم بجولاتنا التسوقية، تمتلئ العربات بمنتجات اللحوم والألبان. نعامل هذه المنتجات كما لو أنها منتجات صُنعت كما هي. كما لو كانت وحدة مستقلة بذاتها أتت من العدم. فتسهل بذلك عملية العزل العاطفي بيننا وبين المخلوقات التي قدمت لنا هذه المنتجات. كما يسهل علينا القيام بالالتجاهل المقصود لما يحدث خلف جدران المصانع الحيوانية. فنضع قطع اللحم داخل العربات، مرتاحين البال مطمئنين الضمير.

الإنسان الجهول الخائف

البشر كائنات غريبة، نمتلك القوة لتحليل واكتشاف العالم من حولنا، لكن نصاب بالذعر عند أول دليل يُهدد توقعاتنا

فرانس دي فال

الأسئلة هنا كثيرة. وجميعها تبدأ بـ”لماذا” ومن الممكن تنتهي بها كذلك. لماذا هذه الصورة وجدت؟ لماذا هذه الصورة موجودة حتى الآن؟ ولماذا خُيل لنا هذه الأحقية لإيجاد الصورة بالرغم من حقيقة عدم حاجتنا لها؟ ولماذا ما زلنا ننهتك الموارد الطبيعية للكرة الأرضية؟ لماذا نُعطي نفسنا السلطة على تغيير الطبيعة البيئية والأحيائية للكائنات الحية من حولنا؟ ببساطة،لماذا؟


على الأغلب، الإجابات ستكون سخيفة جدًا، مثل: لأننا أقوى أو لأننا أهمّ من الحيوانات أو المخلوقات المُنتهكة. أو أكثر سخفًا مثل تبرير هذه الإنتهاكات إلى امتلاك الإنسان للعقل. وجميع هذه الاجابات لا تبرر أكلنا للحيوانات فضلًا عن القيام بأيّ انتهاكات ضد الطبيعة والمخلوقات الأخرى. بالإضافة إلى أنها اجابات كسولة جدًا.  


الفضيلة لا تقاس مطلقًا بناءً على القوة او الذكاء. فهل يحق لنا انتهاك، بأي صورة كانت، الأشخاص الذين يسجلون معدلات متدنية في اختبارات الذكاء؟ وهل يحق لملاكم انتهاك شخص هزيل البنية؟ الفضيلة في السؤالين السابقين مبنيّة على المعاناة المترتبة من نتائج الإنتهاك. لذا نستطيع، في أغلب الحالات، ربط خيط من التعاطف تجاه الأشخاص الآخرين حتى نُحكم بذلك طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض، يعود إلى فهمنا ووعينا وادراكنا للمعاناة البشرية. هذا الخيط من التعاطف يغيب عند تعاملنا مع الطبيعة من حولنا. 


غياب هذا الخيط قد يعود لعدة اسباب، من اهمها عقدة الإستعلاء البشرية. الطبيب النمساوي ألفرد أدلر يفسر طبيعة الإنسان بالنسبة لعقدة الإستعلاء بأنها تحدث نتاج الشعور بالضعف بناء على ظروف معينة. فعندما يُحيط هذا الشعور من الضعف شخص ما، يحاول هذا الشخص جاهدًا تحقيق مكاسب تُمكنه من الحصول على أمان عاطفي. هذه المكاسب قد تكون مكاسب شخصية لا يعود نفعها على المجتمع. أو تكون مكاسب مجتمعية لا يعود نفعها على البيئة. فهل البشرية لديها مشاعر من عدم الأمان تجاه علاقتها مع البيئة فلذا تجد البشرية تستغلها وتنتهكها دون وجه حق؟ هذه العلاقة المسومة مع الطبيعة تختلف بين الأشخاص والمجتمعات. 


الرابط العاطفي بين البشر والمخلوقات المحيطة في بيئة معينة يوجد من العدم بإرادة من البشر. تجد بعض الشعوب تستهلك منتجات حيوانية تستنكرها شعوب أخرى. فمثلًا لحم الكلاب يُباع ويشترى في أسواق الصين بينما تجد مدن الولايات المتحدة تكتظ بعيادات بيطرية تختص بالمحافضة على سلامة الكلاب وصحتها. هذا يدل على ان المشكلة ليست وجود الرابط العاطفي من غيابه. المشكلة مشكلة عقدة النقص -أو الإستعلاء- البشرية تجاه البيئة. فطالما هنالك خوف من الطبيعة، يحاول الإنسان جاهدًا على التغلب عليها بانتهاكها. هذا يُنتج المبررات الغير المنطقية للبشر عند تعاملهم مع الكائنات الموجودة في البيئة المحيطة.


في كتاب “Are We Smart Enough to Know How Smart Animals Are?“ يشرح المتخصص في الرئيسيات وعلم السلوك الحيواني فرانس دي فال عن نظرة الإنسان القاصرة والجهولة. حيث يُقيم الإنسان المخلوقات الأخرى بناءً على معاير لا تصلح إلا لتقييم البشر. فيحكم على الطائر بأنه كائن أقل منه لأنه يفتقد لذكاء يفوق الجنس البشري. وفي نفس السياق، يضع الدلافين في مرتبة أعلى من كائنات أخرى بسبب قدرة الدلافين على محاكاة نوع من الذكاء البشري. في حين يتجاهل بأن للطائر معايير تحكمه تفوق قدرة البشر. كما قد تكون قدرة أي كائن حي آخر. لذلك، هذا الإستعلاء البشري مبني على ضعف الإنسان وجهله مما يجعلهُ يقوم بانتهاكات غير مبرر لها مطلقًا.


أنا طلال ناصر،مُهندس برمجيات أهتم بالبيئة وعلوم الإنسان والإجتماع، اصدقائي المفضلين لي لديهم أربعة أرجل. أحب الكتابة ولي محاولات متواضعة معها. هنا هي المساحة التي سأنشر فيها تلك المحاولات المتواضعة.


Join