البشرية بين سحابة صيف ورحلة القمر
في بداية هذه السنة الميلادية بدأت المخاوف حول اندلاع حرب عالمية جديدة تأخذ قسمها الوافر من كل حديث من أحاديث سكان كوكب الأرض. المناوشات السياسية والعسكرية بين قوتين عالمية كانت في أوجها والتعبئة العامة للطائرات والجنود أقرب من أي وقتٍ مضى. ان ينهي البشر وجودهم من على كوكب الأرض من تلقاء نفسهم، يتراشقون فيما بينهم البين بقنابل نويوية هي خاتمة أصيلة لصياغة الأسطر الأخيرة من كتاب الرحلة الإنسانية. لما فيها من تصوير بديع لنهاية الصراع البشري والمآساة الإنسانية بعد رحلة طويلة مع البقاء. هذا الذي لم يحدث، ونحن الآن أمام صورة أخرى من صور الفناء والهلاك. نحن اليوم، بعد أسابيع قليلة من خطر الحرب العالمية الثالثة، أمام فايروس يحصد الأموات كما يحصد المزارع سنابل القمح في يوم صحو تداعب فيه أشعة الشمس السهول والتلال.
سحابة الصيف
سحابة الصيف التي نمرّ بها ليست إلا وصف يشير إلى موضع الجرح ولا يُبرئه. داء الكلاب، جنون البقر، مرض النوم الأفريقي، زيكا وإيبولا وحمى غرب النيل وكورونا الجمال والخفافيش وانفلونزا الطيور والخنازير وغيرها التي مرّت وغيرها التي ستمر هي خراج هذه السحابة.
هل هنالك حد لما تستطيع فعله آلِهة لا تعرف ماذا تريد؟
يوفال نوح هراري
المصيبة الأعظم التي تضع البشرية في صراع حقيقي أمام الهلاك هي الصورة الأكبر لتلك الأوبئة التي تنتشر كانتشار النار بالهشيم. يظن أكثر المتشائمين من هذه السحابة بأنها ستمرّ مهما بلغ الأمر من حدته ومهما طال وجودها في سمائنا الواسعة. في حين للبشرية دين هي تدفع الآن ضريبة تقاعسها في سداده.
التوازن البيئي يُكال بميزان احترامنا للطبيعة. هذا التدخل الغاشم فيها والتلاعب بأصر أربطة نسيجها لن يولد إلا المزيد من هذه الأوبئة. علاقتنا بالطبيعة هي علاقة لا مناص منها، نحن جزء لا يتجزأ منها، بينما العكس غير صحيح مطلقًا. عاشت الطبيعة أزمنة دون الوجود البشري. لذا ديمومة الطبيعة ليست من ديمومة البشر. هذه العلاقة بدأنا في نسيانها عندما تمكنا من فهم وتطويع بعض العناصر الطبيعية لصالحنا وخدمتنا. فخيل لنا بأننا أقوى من الطبيعة عندما شيدنا الجسور التي تربط الأراضي ببعضها. وخيل لنا بأننا أقوى من الطبيعة عندما ضاقت علينا أرضها فبنينا ناطحات السحاب لتسعنا جميعًا. وخيل لنا بأننا أقوى من الطبيعة عندما قيدتنا الطبيعة بمساحتها الواسعة فاخترعنا الآلات لوصل المغرب بالمشرق. وخيل لنا بأننا أقوى من الطبيعة عندما اشتد صيفها فاخترعنا أجهزة التبريد والتكييف. وخيل لنا بأننا أقوى من الطبيعة عندما كاد يقتلنا الفضول عنها فطرنا إلى الفضاء لكشف غطائها.
هذه القوة يتحدث عنها المؤرخ يوفال هراري في كتابهِ Sapiens: A Brief History of Humankind وعن القدرة الهائلة التي توصل إليها البشر والتي وضعتهم أسايدًا على المنظومة الطبيعية. في حين تضل معرفتنا في إتجاه هذه القدرة الهائلة، والتي تتمثل في الطاقة غالبًا، محدودة أو معدومة بالأحرى. نحن نواصل في تطويع المزيد والمزيد منها في حين أننا لا ندرك تمام الإدراك عن الغاية العظمى من وجودنا أو وجودها. هذه الحالة من عدم المعرفة تولد في محيطنا العالمي نوع من الفوضى البيئية. فنجد نفسنا محاصرين بين الجبروت الذي صنعناه لأنفسنا وبين ما تولد عنه من خراب ودمار بيئي. يصف هراري عن الشهوة الإنسانية في حبها للتملك والسيطرة المستمرة، الصراع البشري تحول الآن من البقاء إلى التوسع والسعي خلف المزيد من السيطرة وذلك على حساب الطبيعة المحيطة بالإنسان. ومهما وصل البشر من قوة وجبروت لن يكونا كافيين مطلقًا. لذا يتسائل هراري “هل هنالك حد لما تستطيع فعله آلِهة (البشر) لا تعرف ماذا تريد؟“
رحلة القمر
ودّع العالم ومن فيه في رحلة تحفها المخاطر من كل جانب. الأرض لم تزل بعد تتعافى من سقم الحروب ووجع الموت وتخاذل الإنسان معها. لاشيء يشير إلى بارقة أمل بحل النزاعات البشرية مع بعضهم البعض. التاريخ كما هو الحاضر وكما سيكون المستقبل، مليء بالدماء والدمار والخراب. الثورة الصناعية في مرحلة بلوغها، أيّ المزيد من الألم للكوكب الذي لم يعد يحتمل الوجود البشري عليه. يضع رائد الفضاء إدجار ميتشيل كل مشاكل الأرض وأوجاعها خلفه ليصعد سلالم المكوك الفضائي ويحمل على عاتقه آمال البشرية برمتها.
من على شرفة مكوكه الصغير، الذرّة في محيط الفضاء، ينظر إلى الأرض بتمعن. يرى الكوكب وهو يتعرى أمامه. فيرى السهول الخضراء وهي خضراء، ويرى المحيطات الزرقاء وهي زرقاء، ويرى قمم الجبال وقد زينها الثلج بقبعة بيضاء تقيها من الرياح العاتية، وهي بيضاء، ويرى الصحاري وهي مرصعة بحليّ من الرمال الذهبية، وهي ذهبية. بينما لا يرى من هذه العناصر ما يحتوي على أي وجود بشري. لا يرى برج دبي أو أهرامات الجيزة، لا يرى سور الصين العظيم ولا كولوسيوم روما. عندما نرى الصورة الأكبر من جميع زواياها، يتلاشى الحضور البشري كما لو لم يكُن مطلقًا. أدركَ رائد الفضاء وهو على بعد آلاف الكيلومترات من الأرض بأننا، البشر، ليس لصراعاتنا أيّ أهمية. حينها أتاه الحلّ كما لو كان وحيًا من السماء. الحل في تخليص البشرية من قبيح أعمالها وسوء منقلبها، وكل ما يجب علينا فعله، هو إجراء تغيير في إدراكنا لواقع الحياة على الأرض
بينما تضل الأسئلة المصيرية الغير مجابة عنها في موضع القلق والحيرة. فإلى أين سيصل البشر بالتعامل مع الطبيعة برنجسية ورعونة بالغتين؟ وإلى متى سيسود التفكير الذي ينص على أحقية الجنس البشري دون غيره بخيرات الأرض ومواردها؟ وهل البشر بحاجة إلى المزيد من الأوبئة، وهي تلك الرسائل المُرسلة من الطبيعة للتعبير عن غضبها الحاد، لاستيعاب الدرس؟ وكذلك، لماذا يجد الجنس البشري تبريرًا لإستغلاله السيء والأكثر من حاجته لأنواع الحياة الأخرى من على كوكب الأرض؟
أنا طلال ناصر،مُهندس برمجيات أهتم بالبيئة وعلوم الإنسان والإجتماع، اصدقائي المفضلين لي لديهم أربعة أرجل. أحب الكتابة ولي محاولات متواضعة معها. هنا هي المساحة التي سأنشر فيها تلك المحاولات المتواضعة.
أسعد بالتواصل معك عن طريق البريد الإلكتوني: talal.nks@gmail.com لكل ما يتعلق بالبيئة أو هندسة البرمجيات.