مذاق الفايروس المرّ في محاربة التغير المانخي

على نغمات حزينة يعزف عازف الكمان معوزفة الخوف كتعبير له لمقاومة العزلة الإجتماعية التي تمرّ فيها بلادُه. الطباشير لا تجد من يكتب بها في فصولٍ تخلوا من الطلبة والمعلمين. دور السينما تعرض فيلم فناء البشرية لمقاعد خالية. لا شيء يدب ولا يسير ولا يتنفس في شوارع خالية تغط في ظلمة منذ عدة أسابيع، عدا الكلاب الظالة التي هي نفسها تتسائل عن ماذا حلّ بالبشر، ورجال أمن في نقاط التفتيش. الإقتصاد العالمي ينهار. دول تعزل نفسها جوًا وبرًا وبحرًا. موظفين يساقون إلى أماكن عملهم والخوف يتملكهم. وعندما تتوقف أحضان الشوق والقبل الحارة بين البشر، الحياة تُشلّ حتى من أبسط صورها.

مذاق الخطر المُرّ 

ما يحدث اليوم في العالم ليست إلا اجراءات احترازية حتى يتوقف خطر فايروس كورونا من التفاقم. خطر ظهر بسرعة وتفشى في أرجاء المعمورة في أشهر قلائل. كل ما نعانيه اليوم بسبب هذا الخطر ما هو إلا مُقبلات مقدمة على طبق بارد من المخاطر المحدقة والناتجة من التغير المناخي. هذه المخاطر، التي نعاني منها اليوم أو تلك التي سنعاني منها في المستقبل، تحدث بصورة بطيئة جدًا بالكاد نستطيع ملاحظتها. هذا ما يعجلنا كسولين في حربنا ضد التعير المناخي وكل ما يسببه. بالإضافة، هذا البطئ يُستغل بصورٍ قبيحة من أولائك الذين في السلطة في بعض الدول. انتشار كورونا بهذه السرعة لم يدع أي فرصة للتشكيك في خطورته ولا في أهمية محاربتنا له، ولم يفتح المجال للسياسيين حتى لأن يُستغل سياسيًا. بل انهم وجدوا أنفسهم محاصرين في بؤرة كذبهم وخداعهم واستلسموا للواقع سريعًا.

العالم ليس مُستعد للخطر القادم

بيل قيتس، في حديث أجراه على احدى منصات TEDTalks، يتحدث للعالم بلهجة نصوحة لما يجب عليهم القيام به حتى نصبح أكثر جاهزية للخطر القادم. يطالب بمستشفيات مجهزة في الدول الفقيرة، وهي التي غالبًا ما تبدأ منها الأوبئة. ومطلب آخر بتجهيز احتياطي من الأطباء على مستوى دولي مدربين على التعامل مع حالات الوباء، وربطهم مع أجهزة الدفاع والجيش في الدول.


ما يطالب بيل قيتس هُنا، فعلًًا، هو التعاون بين دول ومؤسسات العالم والعمل تحت مظلة واحدة من أجل صحة البشرية والأرض. هل تبدو هذه الماطلب مألوفة نوعًا ما؟ هي نفس المطالب التي يطالب فيها نشطاء البيئة من حول العالم لمواجهة مخاطر التغير المناخي. التغير المناخي، كما هو حال فايروس كورونا، هي مشكلة تحل بالأرض جميعها. ولا مناص لدولة دون أخرى. حلّها لا يمكن أن يحدث دون العمل الجماعي بين الدول والمؤسسات والأفراد كذلك. هذه المطالب أعاقها انتشار الفايروس.


فايروس كورونا يشلّ الحديث والعمل البيئي كذلك. منع الرحلات الدولية في كثير من دول العالم أوجب العديد من المؤتمرات المهمة التي تناقش قضايا البيئة من الإلغاء أو التأجيل. مثل قمة غلاسكو ٢٠٢٠، التي كان من المخطط لها جمع صانعي القرار من حول العالم لخفيض الإنبعاثات الكربونية. بينما حال قمة “The Convention on Biological Diversity“ أسوء من ذلك. حيث تم اعادة جدولتها من مدينة كونمينغ الصينية إلى روما إلى أن تُلغى بشكل كامل في منتصف القمة. 

الوجه السعيد للأزمة القبيحة

لهذه اللوحة، التي تُصوّر موت الحياة من حولنا ونحن لم نزل بعد أحياء تنفس، وجهٌ سعيد. حتى نقلل من تفاقم الأزمة قمنا بالتكاتف جميعًا لمحاربة انتشار الفايروس. سواء كان هذا التكاتف أمرٌ مفروض من قبل السلطات أو تطوع من قبل الأفراد نفسهم. قدرة الفرد بالتعاون مع السلطة وتعاون السلطة مع الفرد يُثبت مدى مقدرتنا على محاربة التغير المناخي. دعت الضرورة للأفراد في أن يلزموا منازلهم، ودعت الضرورة للسلطة في أن تدفع معونات مادية ضخمة للعمال والموظفين المتضريين من هذه الأزمة في بعض الحالات، وفي حالات أخرى اختبارات وعلاج مدفوعي الثمن للذين لا يملكون تأمين طبيًا. كما دعتها الضرورة في تسخير كافة القطاعات الخاصة والحكومية في محاربة الفايروس.


هذا العمل الجماعي الضخم نستطيع محاكاته في حربنا ضد التغير المناخي. السلطة تمنع، على سبيل المثال، الإستخدام المفرط في الطاقة ويدفع الفرد قيمة هذا الإستهلاك المفرط على شكل ضريبة. الفرد يقلل من استهلاك المواد البلاسيتيكة ذا الإستخدام الواحد، وتقنن السلطة بدورها مدى انتشار هذه المواد البلاسيتيكة. التعاون هو السبيل الوحيد لنا. التعاون اما يكون مفروض من السلطة أو ينشأ من الأفراد. هي، إذا، أزمة تواصل في أحد المقامات الأولى. التعاون لا ينشأ من العدم، حيث يجب أن ينشأ عند نقطة معينة.


أوجه سعيدة أخرى. الفايروس لم يُثبت قدرة الفرد والسلطة على التعاون والعمل سويًا لمواجهة الكارثة وحسب، بل أثبت ان بعض أنماط حياتنا الغير صحية بيئيًا ليست مهمة تمامًا. العمل عن بعد يُعد أبرز هذه الأنماط. شركات كُثر في السعودية قررت، من أجل الصحة العامة، السماح لموظفيها للعمل عن بعد. مع الأخذ بالإعتبار بأن العمل عن بعد أسلوب لا يملك شهرة كبيرة هنا في السعودية. الحاجة دعت إلى ذلك، والحاجة أثبتت أننا قادرين على ذلك.  


بينما الوجه السعيد الآخر كان من نصيب قطاع التعليم. مع القرار الذي ينص على تعليق الدراسة في السعودية، جامعات كُثر تحولت إلى التعليم عن بعد. أبهرني وأسعدني كثيرًا وفرة المنصات التعليمية الإلكترونية هنا. العملية التعليمية النظرية ليست بحاجة إلى فصول دراسية تستهلك طاقة غير مبرر لها وموارد أخرى كثيرة كذلك. المنصات التي اطلعت عليها كانت ذات كفائة عالية، كفيلة لجعلها منصات تستخدم بصورة مُستدامة.  

بعد الأزمة

الأزمة كما بدأت لابد لها وأن تنتهي. الهلع والخوف والرهبة التي نحن الآن شاهدون عليها بسبب فايروس انتشر منذ أشهر توحي بأننا مقبلين على نهاية العالم،بينما الحقيقة الواضحة والجلية بأننا نُقاد إلى نهاية العالم بسبب أنشطتنا البيئية المضرة منذ القرن المنصرم.


من الصعب الحكم الآن عن ما اذا كان فايروس COVID-19 مُرتبط بأي شكل أو صلة إلى التغير المناخي. في الوقت الراهن هذا الأمر ليس مهم بتاتًا. المهم بأن الفايروس، في ضل تفاقمه الحالي، يُثبت لنا بأننا غير جاهزين لمواجهة أزمات اعتى وأشد. نحن في أمس الحاجة إلى العمل اليوم والآن لمواجهة كارثة التغير المناخي. 


انشار الأوبئة هي احد النتائج المترتبة على التغير المناخي. في مقال له مع مجلة Foreign Affairs أوضح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية،تيدروس غيبريسوس، بأن أمراض وأوبئة مثل زيكا وإبولا ظهرت في مناطق جديدة لتغزوا منها العالم أجمع. في الوقت نفسه، هنالك أوبئة نعاني منها اليوم ستزيد في فتكها وانتشرها. ضرب على ذلك مثال الطاعون الدُمّلي، الذي ينتشر من الفئران والبراغيث، حيث يُتوقع بأن يزيد انتشاره مع ارتفاع درجات حرارة فصل الربيع وارتفاع قوة الرياح في قادم الأعوام.


كما اتخذنا عوامل احترزاية مُشددة لمنع انتشار وتفاقم فايروس كورونا، من الأولى لنا معاملة التغير المناخي كأحد هذه العوامل. بالواقع، محاربة التغير المناخي ما هو إلا اجراء احترازي في المقام الأول. وذلك لمقاومة انتشار الأوبئة القادمة أو الحد منها تمامًا وعدم ظهورها. نعلم جميعًا بالمقولة التي تقول بأن بالوقاية خير من العلاج، يجب أن نعمل بهذه المقولة الآن قبل أي وقتٍ آخر.


أنا طلال ناصر،مُهندس برمجيات أهتم بالبيئة وعلوم الإنسان والإجتماع، اصدقائي المفضلين لي لديهم أربعة أرجل. أحب الكتابة ولي محاولات متواضعة معها. هنا هي المساحة التي سأنشر فيها تلك المحاولات المتواضعة.


أسعد بالتواصل معك عن طريق البريد الإلكتوني: talal.nks@gmail.com لكل ما يتعلق بالبيئة أو هندسة البرمجيات.


Join