العمل عن بعد، وجهة نظر بيئية 

اشعار بوصول بريد إلكتروني جديد يظهر على الزاوية اليمنى من الشاشة أخذ اهتمامي الكامل. الإشعار ليس من أحد العمليات المؤتمتة التي يقوم بعملها بين كل دقيقة ودقيقة احد التطبيقات، وانما هذا الاشعار قادم من أعلى رأس هرم المؤسسة التي أقضي فيها معظم يومي. هذا البريد المُرسل من الرئيس التنفيذي في بداية يوم العمل الجديد لا بد أن يكون بالغ الأهمية. لعلّها تكون رسالة تشدّ من همم الموظفين أو ربما اعلان لتطور قد حدث في هيكلة المؤسسة. فتحت هذا البريد في عجلة من أمري وكلي فضول لمعرفة فحواه. بكلمات رنانة مليئة بالتفاؤل والتطلع يصف فيها الرئيس النجاح المبهر الذي كان نتاج عمل دأوب تكاتف فيه جميع الموظفين. بعد كلمات الشكر والعرفان ذيّل الرئيس رسالته بجمل تصف فيها سنّ سياسة جديدة تخوّل للموظفين حريّة العمل عن بعد. 

تأملت في هذه السياسة أو البرنامج الجديد لبعض من الوقت، وفي الوقت نفسه، مرّ وبسرعة شريط لمحادثات سابقة مع بعض من زملاء العمل حول ثقافة العمل عن بعد عمومًا. الجميع كان لديهم رأيهم الخاص المختلف حول هذه الثقافة، والجميع يُجمع على أهميتها ودورها الأساسي وارتبطاها في مستوى الإنتاجية في ظل الحياة العملية المُتصلة المتسارعة.


لهذه الثقافة العديد من المزايا وأبرزها المرونة المناسبة لصنع أسلوب حياة متزن، ولديها الكثير من الفوائد كذلك. لعلّ أكثر الفوائد التي لا تُذكر كثيرًا عند الحديث عن هذه الثقافة هي الفوائد البيئية الجمّة الناتجة عن العمل عن بعد، حيث يخدم هذا الأسلوب وبطريقة مباشرة صحة البيئة، هنا بعض من هذه التأثيرات الإجابية:


إعتماد أقل على طاقة الوقود الأحفوري، هذا الجانب الأكثر وضوحًا وتأثيرًا لمساعدة التآم البيئة. ذكرنا سابقًا عن الكميات الضخمة من الكربون التي تنتجها السيارات. عندما يعتمد غالبية القاطنين في منقطتنا على محركات الوقود الأحفوري للتنقل من وإلى أماكن عملهم، وعندما تعجّ مدننا بالزحمة القاتلة، تتفاقم المشكلة بكل تأكيد. وعندما تؤدي مهام عملك عن بعد، أنت لست مطالب من أن تبقى حبيس منزلك، بيّد أنك لن تستهلك كمية الوقود نفسها التي تستهلكها للذهاب إلى مقرّ عملك، ولا الوقت نفسه كذلك.


استهلاك أقل لموارد المؤسسة، طابعات مشبوكة بمقابض الكهرباء ليل نهار، أجهزة حاسب على وضعية الإستعداد، شاشات تعرض أضواءها الزرقاء للأشباح، انوار تعمل في غرف تخلو من البشر، وأجهزة تكييف تعمل على مدار الساعة، كل هذه الأمور وأكثر هي مسببات لإهدار الطاقة. عملك من منزلك أو من مقهى في الحيّ الذي تسكن فيه يبطلان الحاجة إلى اهدار هذه الطاقة. 


خفض الضغط على البنية التحتية، تخيل خلوّ الطرق من المركبات في منتصف أوقات الذروة. هذا يعني الحاجة إلى طاقة أقل لتنظيم حركة السير والتي هي بنفسها ستكون في انسيابية عالية فلا تتكدس المركبات وتهدر المزيد من الطاقة، الطرقات والمرفقات المصاحبة تُصبح أقل عرضه للتلف، وبالتالي حفظ الموارد لإصلاحها لدواعي أهمّ. العمل عن بعد يُقلص الحاجة للكثير من الموظفين من أخذ المدن طولًا وعرضًا. فعندما يتوقف موظف في السويدي للذهاب إلى مقرّ عملة في حيّ الشهداء (مسافة نحو ٣٥ كيلو متر تقريبًا) فهذا ليس مكسب للموظف وحسب، بل انه مكسب لسكان المدينة ومرورها وللطرقات وللبيئة كذلك. 


المزيد من الوقت لخدمة البيئة، يُهدر المواطن الأمريكي تسعة أيام من السنة فقط للتنقل من وإلى مقرّ عمله. نظرًا إلى الزحمة الخانقة التي نعيش فيها هنا، هنالك احتمال جيد لارتفاع هذا الرقم لدينا. بدلًا من اهدار هذه الأيام على الطرقات، تستطيع اذا عملت عن بعد تبني قضايا تهم البيئة. أو بصورة أبسط، تحويل مكتبك المنزلي إلى مكتب صديق للبيئة وتساعد في ذلك بشكل مباشر إلى الحد من كمية الأوراق والبلاستيك التي تستهلك بصورٍ بشعة في مكاتب المؤسسات والشركات.

كلمة أخيرة، هنالك العديد من الطرق التي نستطيع من خلالها محاربة ظاهرة التغير المناخي. بعض هذه الطرق تتطلب تغيير ثوري اقتصادي وسياسي، والبعض الآخر بسيط كغسل الملابس بدرجة حرارة باردة. والحرب هي الحرب نفسها. إلا ان هنالك طرق أخرى هي حتمية وضرورة وملحة لمواكبة ما يطالبه الأفراد من حول العالم. وهو الشعار الذي نردده دائمًا وأبدًا: التغيير الحقيقي يأتي من أسفل الأهرم; الأفراد. وهنالك طرق أخرى تأتي بمحض الصدفة تمامًا. ثقافة العمل عن بعد هي أحد المطالبات التي يطالب فيها جيل الألفية (Millennials). الكثير من المؤسسات حول العالم استجابت لهذه المطالبات والعديد من الشركات بمئات الموظفين لا توجد لديها مكاتب إطلاقًا. هذه الثقافة المُلحة تخدم البيئة بطريقة مباشرة. ابدء أنت اليوم بنقل هذه الثاقفة إلى منطقتنا وتحدث مع مؤسستك حول تبني أسلوب العمل عن بعد. وتُواصل أنت بذلك حربك ضد التغير المناخي. تذكر دائمًا:

الكوكب مازال يشتعل، وأنت الشخص الوحيد القادر على انقاذه!

أنا طلال ناصر،مُهندس برمجيات أهتم بالبيئة وعلوم الإنسان والإجتماع، اصدقائي المفضلين لي لديهم أربعة أرجل. أحب الكتابة ولي محاولات متواضعة معها. هنا هي المساحة التي سأنشر فيها تلك المحاولات المتواضعة.


أسعد بالتواصل معك عن طريق البريد الإلكتوني: talal.nks@gmail.com لكل ما يتعلق بالبيئة أو هندسة البرمجيات.


Join