أمام جمعٍ غفير من قادة ورؤساء دول العالم، اعتلت المنصة. بدت واثقة من نفسها، فلم تدع للخوف والرهبة يكونا حاجزين لها ولا معوقين من أن تخاطبهم بخطاب شديد اللهجة. خطاب لم تتعود عليه بروتوكولات المقام. كاسرةً بذلك جميع الأعراف والتقاليد الدبلوماسية. جرُمهم جليٌّ أمامها، تراه كرأي العين. كلماتها الموجعة كانت لكمات تُسددها بكل عنف وبلا أية رحمة. ما أثار استغرابها وأجهشها للبكاء هو حين أنها وجدت نفسها حائرة حيال تفسير ردة فعلهم. لم تجد عليهم أيّ أثر للكمات، لم تفهم تبلد وضمور مشارعهم. لم تعد تفهم ما يجري حولها. وبينما يبادلون دمعوها بالضحك والإستهزاء، تصرخ:

أنتم سلبتم طفولتي!

لعلك شاهدت بعينك هذه الصرخات واستمعت إلى خطاب الناشطة في مجال البيئة Greta Thunberg التي لم يتجاوز عمرها السابعة عشرة. حيث بدأت تجوب دول العالم منذ نعومة أظافرها لتدافع عن حقها وحق جيلها والأجيال القادمة بالعيش في بيئة آمنة على هذه المعمورة. قد تبدو لك سخافة الأمر، فأي أثر تستطيع هذه “القاصر“ أن تتركه؟ وأي تغيير تستطيع كلماتها، حتى وان لامست المشاعر، بفعله؟ بينما لا أحبذ أن ينشغل من هم بهذا العمر بهذه قضايا حتى لا يتم استغلالهم سياسيًا، الا أنني أراها مثالًا جيدًا لنا نحن في العالم العربي لنقيس فيه على انفسنا مدى اهتمامنا بهذه القضية. القضية التي لا يخلو طرف من أطراف هذه المعمورة إلا وقد تأثر فيها. فارتفاع درجات الحرارة بمعدل غير مسبوق وتقلص وذوبان الكتل الجليدية في القطبين الجنوبي والشمالي واحتراق الغابات والغابات المطرية على وجه الخصوص في ظاهرة لم تعتد عليها الأجيال الماضية ومظاهر التصحر المحيطة بنا من كل جانب ماهي إلا أمثلة بسيطة على ظاهرة الإحتباس الحراري التي نستطيع أن نراها اليوم في حياتنا اليومية أو على بعد بحثٍ واحدٍ في جوجل.

عندما قرأت عن قصة قريتا تونبرق لأول مرة تساءلت عن الدور الذي تلعب فيه المدرسة لتوعية الطلبة عن هذه القضية، فلم أستطع الذهاب إلى أبعد من اللوحات التي تحث على الحفاظ على البيئة، ونظرة واحدة في أروقة المدرسة وشوراع مدننا لنكتشف انها لم تكن إلا مضيعة للوقت والجهد والمال. أو الرحلات المدرسية التي يذهب فيها الطلبة إلى أرض قاحلة أهلكها العطش أو حديقة زُينت بمسطحات خضراء زاهية الإخضرار وذلك بالطبع بسبب استخدام العشب الصناعي أو أشجار مجذوذة لتعطي منظرًا جماليًا مُجتذين بذلك الدور الأساسي لهذه الأشجار والفائدة المرجوة منها في الطبيعة ليزرعوا فيها أشجار أخرى. لنجدها بعد مدة ليست بالطويلة اما وقد أصبحت سدًا منيعًا للأكياس البلاستيكية والنفايات المتطايرة أو انها وجدت طريقها إلى موقد حطب لتدفئ ليلة باردة لمجرم أرعن انتهك حق هذه الأرض وحق هذه الطبيعة. هذا بالإضافة إلا ان الخطاب البيئي مُغيب تماما من الواقع الإجتماعي.


فكم مرة كانت البيئة هي المحور الأساسي لبرنامج حواري يناقش فيه أحوال المجتمع، أو حتى كانت طرفًا لأحد النقاشات في مناسبة رسمية أو عائيلة. كم هي الندوات والمحاضارت التي أخذت من التغير المناخي موضوع رئيسيًا أو ثانويًا لها. فعلى الرغم من كون منطقتنا هي أحد أكثر المناطق في العالم عرضةً للتأثر بالتغير المناخي ويواجه مخاطره أولًا، إلا أننا بالكاد نتطرق له في محادثاتنا العامة والخاصة.

الحقيقة المرّة والتي نتجاهلها كثيرًا ومرارًا هي كون البيئة ليست قضية فئة معينة تدافع عنها وتتظاهر من أجلها، فالبيئة هي قضية الجميع مهما كان اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية والدينية والعرقية. وان لم تكن كذلك، فيجب أن تكون. كما يجب أن نعامل من يدعي أنها محض خدعة، كما نعامل من يدعي أن الأرض مسطحة. كلاهما أوجد لنفسه غربال في مخيلته ليحجب الحقيقة كما شاء لهُ أن يحجبها. كما أن الدفاع عن هذه الأرض ليس ترفًا ولا لخلو الساحة من قضايا ندافع من أجلها، بل انها هي القضية الأهم التي يجب أن تنصرف إليها أقلام الكتاب وخُطب الخطباء. فأكثر القضايا السياسية تعقيدًا في وطننا العربي قد تكون مبنية على أحداث بيئية في أصلها وأساسها. حيث تقول في ذلك Farhana Yamin المحامية في مجال التغير المناخي في مشاركة لها في كتاب This Is Not A Drill: An Extinction Rebellion Handbook أن الأزمة السورية في 2011 بدأت بسبب حالة الجفاف التي تعرضت لها المنطقة في الشمال العربي بين أعوام 2006 و2011. عندما عانى أكثر من 60٪ من الشعب السوري أطول حالة جفاف وفشل المحصول الزراعي في تاريخ الجمهورية السورية. هذا ما أدى إلى العديد من حملات الهجرة الهائلة في وطننا العربي والتي يبدو أنها لن تتوقف قريبًا.

المشكلة ليست إلا في حالة تفاقم تصاعدية مستمرة. فيتوقع معهد Max Planck الألماني بأن درجة الحرارة في المنطقة العربية سترتفع بمقدار 4 درجات مؤية عند عام 2050. بل هذا البحث يُفيد بأن المنطقة العربية برمتها لن تكون قابلة للعيش مطلقًا عند وصولنا إلى عام 2100 في حالة إستمرار الأوضاع كما عليها اليوم. هذا هو الخطر الأعظم الذي يهدد منطقتنا والإنسانية بأسرها.

نحن نواجه اليوم خطر الإنقراض السادس في تاريخ كوكبنا، والأسوء من ذلك، أن هذا الأمر يحدث بمحض إرادتنا المُطلقة. والكارثة هي أننا بالكاد نقوم بفعل أي شيء حيال هذا الخطر المحدق. كُل ما نعمل من أجله اليوم وما نطمح من تحقيقه غدًا لن يكون إلا محض أوهام وتخيلات وأحلام إن لم نبدأ اليوم بالحراك. حتى لا تصرخ الأجيال القادمة بأننا سلبنا منهم طفولتهم وأرضهم وبيئتهم وطبيعتهم ومستقبلهم، يجب علينا نحن أن نصرخ اليوم في وجه التحديات والأنظمة الصناعية والإقتصادية القائمة على بث سمومها ليس فقط في الأغلفة الجوية وانما في ماضينا وحضارتنا وتاريخنا وكل ما بناه أجدادنا. هذا الإرث العظيم سيختفي من الوجود ولن يبقى حتى من يبكيه ويرثيه إن لم ندافع عنه اليوم.


لا ينبغي علينا أن نبقى مكتوفي الأيدي بلا أي حراك بينما نُعوّل على الناشطين في الدول الغربية بالمطالبة بتغيير الأنظمة حتى تُبدل بأنظمة أكثر جاهزية للمرحلة التي نعيش نحن الآن خضم مآسيها. هذه القضية تعنينا نحن في الوطن العربي في المقام الأول. فقط عندما يتكاتف الأفراد والمؤسسات والدول نستطيع أن نجد مخرج من هذا المأزق الكارثي. هذا لن يحدث أبدًا ان لم نحرك نحن الأفراد والمستهلكين وأصحاب الكلمة العليا دفة عجلة الحراك البيئي وأن نطرح القضية بلا خوف ولا رهبة. فكما هزّت صرخات قريتا تونبرق العالم بأسره، فللأرض دَوِيّ أعلى وأجلّ وسيُكلفنا الكثير إن لم نستمع ونمتثل له ونعمل به.


أنا طلال ناصر،مُهندس برمجيات أهتم بعلم الإنسان والإجتماع، اصدقائي المفضلين لي لديهم أربعة أرجل. أحب الكتابة ولي محاولات متواضعة معها. هنا هي المساحة التي سأنشر فيها تلك المحاولات المتواضعة.


Join