طائر النورس.. حــلــقَّ حــلــقْ

هذا طائر النورس، يُحلق، والخطر.. والخطر من تحته….

يُحلقُ هذا الطائر فوق رمال الشاطئ الذهبية بحثًا عن الغذاء. هذه العادة الطبيعية المحفوفة بالمخاطر سلفًا، أصبحت أصعب وأخطر من أي وقت مضى. ما يواجه هذا الطائر ليس قرش ينتظر اقترابه من سطح الماء حتى ينقض عليه، انما ما هو أصغر وأخف وأدهى من القرش.. ما ينتظر هذا الطائر.. ما لم يكن بالحسبان مطلقًا.


يحوم طائر النورس فوق مياه البحر، ينتظر ويراقب ما تحت سطح الماء جيدًا، يُسجل كل حركة وهمسة، يضع الزمن والسرعة في معادلات تصعب حتى على أعتى الفيزيائيين، وعندما تأتي اللحظة المناسبة.. يميل نحو سطح الماء، يغلق جناحيه تاره، ويرفر بها تارة أخرى، ويدع قوانين الجاذبية تلعبُ دورها..


يقترب بحذر كما لو كان لص يتسلل إلى خزينة البنك المركزي، يتافدى كل حساسات اجهزة الإنذار كما في أفلام الجريمة. يفرد قدميه عندما يُلامس سطح الماء حتى لا يعطي أي إشارة مسبقة إلى فريسته، وبسرعة بديهية يحكم بمخالبه جيدًا.. ويصعد إلى السماء مجددًا ومعه الفريسة التي سرعان ما يَكتشف أنهُ لم يوفق بصيد غذائه، وان فريسته انسلت هاربة.


سرعان ما تتحول خيبة الأمل هذه إلى وقود تشعل من نار عزيمته، فالموقف لا يتحمل الإنسحاب. يعود حتى يكرر المحاولة مرة أخرى مع فريسة أخرى، وهذه المرة لن تنطلي عليه حيل الفريسة السابقة مجددًا والتي تعلم منها دروسًا جديدة.


بخطوات أو رفرات واثقة يحوم الطائر في السماء مجددًا.. يحدد فريسته التي كانت تطفو بشكل مثير للشك والقلق فوق سطح الماء منذ فترة.. هذه الفريسة السهلة لن تفلت منه. الجوع بدأ يداهمه وطاقته بدأت تتلاشى، هنا لا مجال للخطأ، اما ان يكون او لا يكون.


يقترب من سطح الماء، الفريسة لا تُحرك ساكن، يقترب اكثر فلا تتحرك إلا مع حركة الرياح التي أدخلها طائر النورس في حساباته مسبقًا. يوم صحو وفريسة سهلة! يبدو انه يوم سعد هذا الطائر..


كما كانت توقعاته، لم يجد أي صعوبة في أن يحكم على الفريسة بين مخالبة، معتقدًا انها ماتت ذعرًا ورعبًا من رهبته فلم تقاوم انقضاضه لها.


تساؤلاته حول طعمها ولونها البراق الجذاب ومدى قسوته وصعوبة هضمة تناسها مع مرور الزمن وتلاشت تمامًا. فالجوع كان أشد وأقسى من أن يفكر ولو للحظة بطعمها ولونها ورائحتها. كما أنهُ منذ عقود بدأت أمواج هذا البحر بحمل مثل هذه الفرائس السهلة معها حتى تكدست وتكومت على أطراف الشاطئ..


يبدأ بإلتهام فريسته، بمنقاره الذهبي الحاد كالسيف، يمزق الفريسة إلى أجزاء صغيرة قابلة للإلتهام. ومع كل قضمة، تبدأ الفريسة في لعب دورها.. هذه الفريسة لا تستلم أبدًا، ولا تعرف معنًا للموت..


يصيح الطائر بأعلى صوت له.. يستغيث.. يصيح ويطلب النجدة.. الفريسة تتمكن منه. فجزء منها يذهب إلى معدة الطائر ويبقى هناك لينشر السموم في أرجاء جسد وأعضاء طائُرنا. والجزء الآخر في معركة طاحنة مع حبال الطائر الصوتية ليعجز عن طلب المساعدة.


صرخاتهُ بدأت تدريجيًا بالإنخفاض، يعجز عن تحريك جناحيه، حتى الوقوف بدى لو أنه مهمة مستحيلة..


قدماه إلى السماء.. جناحيه مفرودان على جانبيه.. وريشه في مهب الريح…


الفريسة، بعدما تمكنت من افتراس الطائر، تستريح بين أحشائه..



الفريسة

هذه الفريسة تنتشر كانتشار النار بالهشيم في أرجاء المعمورة. تتمثل بصور يصعب حصرها وتخيلها وتتكاثر بسرعة مهولة. ونحن، بني البشر، المسؤولون الوحيدون عن خلقها. نحن لم نكتفي بخلقها فقط بل أننا نحث على تكاثرها ونحميها بكل ما أوتينا من قوة وخلقنا لها بيئتها الخاصة الآمنة فضلًا على أننا لا نتوقف في تمثيلها بصور جديدة غير مكترثين لما حدث لطائر النورس ولا إلى أكثر من مائة مليون مخلوق آخر يموتون سنويًا بسبب ما يعتقدون انه غذائهم، بطريقة أو بأخرى. هذه المأساة ليست وليدة اليوم، وانما هي تبعات أحد أكثر الأحداث التاريخية فضاعة وجرمًا.


عدد المآسي والكوارث التي خلفتها الحرب العالمية الثانية لا يسع حصرُها، مجازر اودت بحياة الملايين والملايين من البشر، تقدم وتطور الصناعات الحربية التي أنتجت أدوات فتاكة قابلة إلى ان تمحي الجنس البشري كافة وتجعله نسيً منسي في أيام معدودات فقط. ولعل منتجات البولي-ايثيلين لا تقل خطورة كذلك. مادة بيضاء شمعية كانت نتيجة صدفة لاحظها مساعدوا الكميائي الألماني هانز فون بيشمان أثناء تسخينهِ لثنائي آزو الميثان عام ١٨٨٩. بعيدًا عن تعقيدات الكيمياء التي لا تجلب لي إلا المزيد من الصداع،وعودة إلى الحرب العالمية الثانية عندما قامت قوات التحالف باستخدام هذه المادة كمادة عازلة للأسلاك الكهربائية لأجهزة الرادار. لاحقًا، كانت احتمالات استخدام هذا المنتج لا نهائية. ليشهد التاريخ انطلاق ثورة الصناعة البلاستيكية. لتضع العالم أمام خطر محدق قادر على تغيير العالم الذي نعرفه منذ بزوغ فجر التاريخ.


إلى هذه اللحظة من قراءتك هذه التدوينة، أنتجت المصانع حول العالم ما يقارب المليونين ونصف منتج مصنوع من البلاستيك من أصل ٤٠٠ مليون منتج مختلف يُصنع سنويًا. والمأساة الحقيقية ان ٩٪ من هذه المنتجات البلاستيكية فقط قابل لإعادة التدوير بيد أن الرقم الذي يتم اعادة تدويره بشتى أنواع مختلف ومفاهيم اعادة التدوير أقل من ذلك بكثير.


لكثير منا، منتجات البلاستيك تعد جزءً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. والبلاستيك في أصله ليس إلا مادة قابلة للعديد من الإستخدامات ونحن من أسأنا استخدامها، على المستوى الفردي والجماعي. فالكثير من عاداتنا الإستهلاكية والشرائية السيئة ليست إلا نتيجة الثورة الصناعية. يتحدث العالم الكميائي Michael Braungart والمهندس المعماري الأمريكي William McDonough في كتابهم Cradle to Cradle: Remaking the Way We Make Things حول هذا الموضوع ويصبان اللوم على الثورة الصناعية التي بدأت بدون أسس وركائز. فلم يكن لها اهدافها الواضحة ولا حتى معايير أو ضوابط تتقيد عليها. ولم يكن هنالك أيضًا المشرعين القادرين على تقنين تصنيع المنتجات الإستهلاكية بطريقة لا تحمي البيئة فقط وانما تحافظ عليها كذلك.


كما هو عنوان الكتاب، الكاتبان يقترحان مناهج صناعية تتمحور حول جعل عملية تصنيع هذه المنتجات صديقة للطبيعة. ليس فقط أن يُعاد تدوريها، فاعادة التدوير ليست إلا محاولة بائسة ومستمية لتأجيل وقع أضرار المنتجات الإستهلاكية إلى وقت لاحق. وهذه الاقتراحات موجهه على صعيد المستوى الجماعي، وأعني هنا أي تصرف ينشأ من المجتمع أو الدول أو الشركات والمؤسسات أو التحالفات التجارية أو السياسية، وهي القادرة على ان تحدث الفارق الأكبر وتصحيح مسار الكارثة، كما في اتفاقية باريس ٢٠١٥.


لكن ماذا عن المستوى الفردي؟ مالذي تستطيع أن تفعله أنت كفرد حتى تنقذ ما يمكن انقاذه في بيئة تجعل من هذه المهمة مستحيلة المستحيلات؟وأخيرًا والأهم، كيف تصبح قادرًا على أن لا تساهم بموت طائر نورس آخر؟ سأتطرق بالتدوينة القادمة إلى تجربتي مع تحدي شهر يولو المنصرم، وكيف استطعت ان اعيش ٣٠ يوم بدون استخدام منتج بلاستيكي واحد، وكيف تستطيع أنت كذلك.



أنا طلال ناصر،مُهندس برمجيات أهتم بعلم الإنسان والإجتماع، اصدقائي المفضلين لي لديهم أربعة أرجل. أحب الكتابة ولي محاولات متواضعة معها. هنا هي المساحة التي سأنشر فيها تلك المحاولات المتواضعة.



المصادر:

Join