التدريج من وإلى العمل كأسلوب حياة -١- 

تزدحم الطرقات صباحًا بالسيارات. محركات تعمل بلا كلل ولا ملل على نقل الملايين والملايين من الناس إلى مدارسهم وأشغالهم ومصانعهم وأعمالهم. تختنق الحركة المرورية في ساعات ذروتها والتي تمتد لساعات وساعات، كما تختنق الأرض من كل هذه الإنبعاثات الكربونية التي تبثها عوادم السيارات. الأبدان هي الأخرى تختنق. السمنة، القلق، الإجهاد، الإكتئاب، ارتفاع ضغط الدم وحتى ارتفاع في نسب الطلاق هي نتاج آفة العصر: التنقل بالسيارة.

خلفيّة.. جارتي اليهودية

أصوات لضجيجٍ ما تُربك نومتي الهانئة. بكل تبلد أحاول جاهدًا تحريك عضلات جفني الأيمن، في حين ليست لدي أيّة قدرة على حتى محاولة التخاطب مع جفني الأيسر. قدراتي الذهنية المحدودة في ذلك الوقت تحاول هي الأخرى جاهدة على تحديد مصدر هذه الأصوات وتحليلها، لعلّها تجد معنًى لها. في الوقت نفسه، تحاول عيني البحث عن نور أشعة الشمس وتخيب محاولاتها. في هذه الأشهر، الشمس هنا لا تستفيق مبكرًا. تتخذ من الغيوم وشاحًا تحتمي فيه من البرد القارص والرياح العاتية. وهنا في شمال بلجيكا تكون الرياح في أشدّها في فصل الشتاء. فالجميع، حتى الشمس، يتملصون من مواجهة رياح الشتاء. هذا الضجيج الذي أيقظني لم يكن، وبكل أسف، من الرياح. بعد ثوانيٍ قليلة تمكنت من تفسير وتحليل جميع الإشارات التي تُرسلها حواسي الخمس. بينما حاستي السادسة مازالت تغط في نوم عميق. هذا الضجيج قادم من جارتي اليهودية وهي توقظ أبنائها. بالرغم من عدم فقهي بأبجديات اللغة العبرية، إلا أنّ نبرة صوتها كانت مألوفة جدًا. للأمهات لغة واحدة، مهما بدت مختلفة. الأرقام في منتصف شاشة الجوال تشير إلى السابعة صباحًا، وفي السابعة صباحًا تنبض مدينة أنتويرب بالحياة بهدوء.. عدا جارتي اليهودية بالطبع.  


في أيامي الأولى هنا لم أتفهم رؤية هذا الكم الهائل من البشر وهم يتنقلون بدون احداث ضجيج يتناسب مع كثرتهم. أراقبهم، بعدما استيقظت وتجهزت للعمل، من نافذة المطبخ وأنا أنتظر الحماصة تفرغ من مهمتها المرجوة. ما يحدث في الشارع، بالرغم من غرابته، بدى لي طبيعي. رؤية انسيابية الحركة وهدؤها كان مريحًا للأعصاب. الجميع يخطو بخطوات الملك الواثق. فتجد من يخطو إلى محطة الباص أو إلى محطة القطار في منتصف الطريق، أو الدراج وهو يصطف مع المشاه على جانب الرصيف ينتظرون اشارة العبور. وآخر يمتطي دُعْرُوْمَته أو سكوتره الكهربائي منطلقًا بين الطرقات والأرصفة كغزال شارد. الانسجام بين مختلف وسائل التنقل كان مبهرًا فعلًا. تناغم أخّاذ كان علي دراسته ومراقبته جيدًا.


بخطوات حذرة احاول النزول من السلالم الرفيعة في البناية. المساحة بين باب الشقة والجدار المقابل بالكاد تكفي لشخصين. أمُرّ من باب شقة جارتي اليهودية المفتوح غالبًا لأراها تودع أطفالها وهم يستعدون للذهاب إلى مدارسهم. من الطبيعي جدًا أن يخرج الأطفال بمفردهم والتنقل في الصباح الباكر وهم يركبون وسيلة التنقل المفضلة لهم، الدُعرومة الهوائية أو الدراجة. يتسابق الأطفال للنزول من السلالم وانا في مقدمتهم. افتح لهم باب البناية ليكملوا سباقهم على رصيف الشارع، وانا ابقى واقفًا بجانب عتبة الباب حتى أجاوب على السؤال المصيري، أيّ وسيلة تنقل سأستخدم اليوم للذهاب إلى العمل؟

البداية.. تبنيّ العادة

حريّة الحركة والتنقل هي احد حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليًا. بينما طرق التحرك ووسائلها تبقى هي العامل الرئيس الذي يمنح لهذه الحريّة شكلها وهويتها واحترامها. منذ قدومي إلى السعودية وانا كالملايين غيري نعتمد كليًا على السيارة للتنقل من النقطة ألف إلى النقطة باء. لطالما تملكني احساس مريع حول الإعتماد الكليّ على السيارة. بجانب انها تتسبب بكوارث بيئية وصحيّة، لا تدع السيارة لنا فُرصة لتقدير التفاصيل الصغيرة على جنبات الطريق. اكتشافات كثيرة اكتشفها في كل مرة أذهب إلى وجهتي مشيًا على الأقدام او باستخدام الدراجة. أبرز هذه الإكتشافات كان دُكان صغير يصنع ألذ مطبق أكلته، أو ذلك المقهى الذي تعرفت فيه على أحد أجمل الأصدقاء. هذه العوامل البسيطة وغيرها، مثل رعونة سائقي كريم وأوبر، دفعتني إلى خوض غمار تجربة التنقل من وإلى العمل باستخدام الدراجة. بينما يظل العامل الأهم: اتباع أسلوب حياة صحي.


أولًا، لماذا الدراجة؟ تجاربي الشخصية معها دائمًا ما تنتهي بفشل ذريع. آخر ثلاث دراجات لي انتهى مصيرها بين أيدي اللصوص. بالرغم من هذه الذكريات السيئة، كان اختياري لها بدافع تبني أسلوب حياة صحي. منذ عدت أشهر وأنا أجد صعوبة في ملائمة التمارين الرياضية إلى الجدول اليومي. ومهمة إضافة عادات حسنة جديدة هي مهمة صعبة وشاقة. ومن تجاربي السابقة، وجدت تَبنيّ أسلوب حياة جديد هي مهمة أكثر تعقيدًا إلا انها أكثر فاعلية.


اتباع أسلوب حياة طريق آخر لتجديد أو اعادة صياغة للهوية الشخصية. يُؤكد رائد الأعمال جيمس كلير بكتابه Atomic Habits بأن الحل المثالي لبناء عادة جديدة هو النظر لها من منظور الهوية الشخصية. فبدلًا من التركيز عن المنتج الذي ستنتجه هذه العادة، نُركز هنا عن الشخص الذي ستصنعه منا العادة نفسها. أن تكون كاتب وأن تكتب كتاب هما أمران مختلفان تمامًا. الأولى فيها الإستمرارية حتى وان الصفحات التي تكتبها قليلة أو مستواها اللغوي سيء، والأخرى ليست إلا مهمة تبدو ثقيلة وقد لاتُنجز مُطلقًا. من هذا المبدأ بدأت العمل على إعادة صياغة هوية جديدة، طلال نسخة 2.5، فيها طلال الدرّاج.


في تدوينة لاحقة، سنتحدث عن استعدادات طلال الدرّاج وأسلتحه التي يتسلح بها في هذه الهوية الجديدة، تحضيراته وتجاربه في استخدام الدراجة كوسيلة تنقل رئيسية، ماهي المعوقات والمخاوف والمخاطر هذه التجربة. وكيف يستخدم التقنية لجعل هذه التجربة أمتع تجربة تنقل ممكنة.


أنا طلال ناصر،مُهندس برمجيات أهتم بالبيئة وعلوم الإنسان والإجتماع، اصدقائي المفضلين لي لديهم أربعة أرجل. أحب الكتابة ولي محاولات متواضعة معها. هنا هي المساحة التي سأنشر فيها تلك المحاولات المتواضعة.


أسعد بالتواصل معك عن طريق البريد الإلكتوني: talal.nks@gmail.com لكل ما يتعلق بالبيئة أو هندسة البرمجيات.


Join