لحظة الإدراك



مع مرور السنين ندرك سرعتها.. ننصدم من تسارعها.. مرت أمام أعيينا لكننا لم نتنبه لها.. تأتي لحظة الإدراك فجأة بلا سابق إنذار.. يشعر الشخص أنه الطرف الخاسر.. أنه ضحى من أجل الجميع لكن حين احتاجهم لم يجدهم.. يشعر أنه غلط في اتخاذ الكثير من قراراته.. أنه تسرع في تنازلاته.. أنه كلف نفسه فوق طاقتها.. يستغرب من نفسه أنه عمل كل هذا برغبة منه وبدون أي ضغط من أحد..  ولم يعده أحد بأنه سيرد له ما فعل.. لكنه كان يعتقد أن ما يفعله سيثمر يوماً ما.. أن الجميع سيرد الجميل بدون طلب منه.. أن الأصل رد الجميل.. والنادر هو نكرانه..

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت أعهد"

 

 لحظة الإدراك تأتي بعد سنوات من الغرق في الإنجاز.. في العمل.. في العائلة.. في الادخار.. في تكوين العلاقات.. بعد أن كان الشخص مستقلاً لا تأثر فيه المواقف.. لا تأثر فيه ردود الأفعال.. لأتأثر فيه صراعات البشر.. أصبح ينتظر التقدير ممن حوله.. ينتظر الثناء.. ينتظر رد الجميل.. ينتظر كل شي.. يختلف البشر بردود أفعالهم عندما يصلون لهذه المرحلة.. منهم من يستمر كما هو.. يستمر بعطائه.. يستمر بحبه للغير.. لا يتغير.. تكون كل صراعاته بينه وبين نفسه.. وما أن تشرق الشمس يتجاهلها ويبدأ يومه كما كان.. وهناك من يتحول لشخص أناني.. يحاول استرداد كل ما قدم.. يحلل لنفسه المطالبة بكل ما قدم عن طيب خاطر.. يطالب أبنائه برد الجميل.. يطالب اقربائه برد المواقف.. يطالب زملائه بتعويضه عما قدم.. يتحول لشخص لا يعرفه الجميع.. قد يضر من كلن يحبهم.. يتخلى عنهم.. لمجرد أن يحصل على بعض مما قدم لهم.. أما النوع الثالث فيتغير لشخص آخر.. تتغير شخصيته.. تتغير اهتماماته.. يبقى وسطاً.. يحاول أن يصنع لنفسه ما لم يستطع فعله سابقاً دون أن يضحي بأحد.. لا يضر من حوله لكنهم يلحظون تغيره.. يلحظون لا مبالاته.. يلحظون تغير اهتماماته.. يلحظون بروده أمام ما كان يثيره.. يلاحظون تغير توجهاته.. تغير آرائه.. لا يبرر لأحد.. لا يشرح لأحد.. لا يسأل عن أحد لكن بابه يبقى مفتوحاً لمن يطرقه.. يعطي، ولكن هذه المرة بحذر.. يسأل نفسه أولاً: هل أنا أرغب بتقديم ذلك؟ هل أرغب أنا بالمساعدة؟ فخياره أصبح بناء على رغبته.. أصبح يعطي نفسه أولوية على غيرها..


لكن متى تأتي هذه اللحظة؟ هل سنصل إليها جميعاً؟ هل يصل إليها الجميع في نفس الوقت؟ ما الذي يحدد أي نوع ستكون ردة فعلنا؟ تساؤلات كثيرة لا يمكننا الإجابة عليها.. حتى. الشخص نفسه قد يتوقع أن تكون ردة فعله شيء ويتفاجأ بأنه تصرف بشكل مختلف..

اعتقد أن ما يحدد لحظة إدراك كل شخص عدة عوامل.. التجارب التي مر بها الشخص.. مدى تشبعه من المشاعر.. ترابط عائلته.. وعيه.. الصفات الموروثة جينياً.. العادات والصفات المكتسبة.. مقدار عطائه للآخرين.. مقدار حبه لذاته.. الدعم الذي يحظى به ممن حوله.. صداقاته المحيطة.. كلها تجتمع لتنتج شخصاً مختلفاً لا يعرفه الجميع.. حتى هو لا يكاد أن يعرف نفسه..

 

لا ننسى آن نقول بأن العمر له دور.. منا من يصل لمرحلة الإدراك مبكراً.. منهم من يصلها في ثلاثينات العمر.. منهم من يصلها في اربعيناته.. منهم من يصلها في خمسيناته..  ومنهم من لا يصلها.. ومنهم من قد يصلها قبل أو بعد ذلك..

 

ربما كل التساؤلات السابقة تجعلنا نخطط مبكرا.. ونستعد للحظة الادراك لكي لا نقع في ما وقع فيه غيرنا.. قد يختصر علينا الوعي الكثير..

 

مجرد تأملات..

ما رأيكم؟

Join