لمن ستحكي قصتك؟
وَكَذا الحَياةُ قَديمُها وَحَديثُها
ذِكرى نُسَرُّ بِها وَذِكرى تُؤلِمُ
مما يدعو للحياة هو خوض تجارب جديدة.. معرفة أشياء أعمق.. لقاء الأصدقاء.. زيارة أماكن جديدة.. خرجت كالعادة بحقيبتي و جهاز حاسوبي و مذكراتي لا أعلم لأي وجهة سأذهب.. سوى أني سمعت بمقهى جديد تم افتتاحه وودت أن أزوره.. الذهاب و الجلوس و طلب القهوة يعد تجربة بالنسبة لي.. أذهب لوحدي.. أتأمل من حولي.. ماذا يقولون؟ كيف يتصرفون؟ ماذا يلبسون؟ ماذا يطلبون؟ كيف يتفاعلون مع بعضهم؟ كيف تكون تعابير وجه من يجلس وحيداً؟ هل الفرح يعم لقاءاتهم أم أن هناك ملامح للتوتر و القلق أم حتى الحزن؟
البعض قد يرى بأن هذا فضول.. أو شغلة من لا شغلة له.. لكن على النقيض تماماً.. تأملات عميقة تشرح و تفسر العديد من تصرفات البشر.. قد تتخللها مقارنات مع تجاربك و يومياتك.. قد تتأمل اختلاف البشر و ردود أفعالهم و تعاملهم مع الموظف.. كل هذه لها مبرراتها و خلفياتها النفسية و الثقافية و الاجتماعية..
قد يستنكر البعض وجودك وحيداً لكن وجود جهاز حاسوبك يبرر وحدتك بانشغالك بعمل ما.. ما أن تصل القهوة.. و ابدأ بتذوقها حتى انتهي منها و أنا أعيش تفاصيل التجربة..
في كل مرة أزور مقهى جديد لابد وأن يحصل موقف غريب.. يدخل شخص مختلف.. يحدث شيء ما يكسر جمود المكان اللذي يكون كل شخص منغمس انغماس تام بمن معه وفي كوب قهوته..
اتذكر تمام ذلك الموقف.. حيث كان صباح يوم الخميس.. انهيت أحد مواعيدي وقررت زيارة مقهى صغير بالقرب منه.. الجلسات محدودة.. رائحة القهوة بكل مكان.. المكان جميل و مختلف ويعبر عن شخصية صاحبه أو مصممه.. المكان لا يكاد يعرفه أحد.. كان مصمم بطريقة فريدة.. يعم الهدوء.. رائحة القهوة مخلوطة برائحة الخبز.. لطافة الموظفات و تناسق كل أجزاء المكان.. شعرت بأن زيارته ستضيف لي انطباع و تجربة جديدة.. رغم قلة عدد الأشخاص المتواجدين إلا أنني قررت الجلوس.. طلبت قهوتي و قطعة كيك و وصلتني بكل حب وإتقان بعد عدة دقائق ليست بالطويلة.. بعد فترة لم أشعر سوى بأحد يطلب الجلوس معي.. ترددت قليلاً لكنني سمحت لها بذلك.. مرت لحظات من الصمت.. أنا معتادة أن أتأمل الأشخاص عن بعد لا أن أجلس مع الغرباء.. بدأت بأحاديث عامة لأكسر الجمود دون التطرق لمعلومات شخصية كإسم أو جهة عمل..
تحدثنا و كان الحديث مستمر لدقائق ثم استمر لساعات أطول.. وجدت فيها فتاة طموحة.. تشاركنا الأحاديث و التجارب.. سألتني إن كان بالإمكان أن استمع لقصتها و أن اعطي رأيي بنهايتها إن أحببت ذلك.. وافقت بلا تردد فهذا ما أريد و ما أبحث عنه.. بقيت صامتة لوقت طويل.. استمع لقصة من شخص يتحدث بكل حماس.. عشت كل تفاصيلها.. عرفت كل أسماء شخصيتها.. شعرت بما فيها من مشاعر فرح و ألم.. كانت تروي قصتها و كأنها للتو عاشتها.. نسيت بأني مع شخصية غريبة و تعاطفت مع كل تفاصيل قصتها.. لم أقاطعها أبداً.. أكملت حديثها وكلما همت بإنهائها تذكرت تفاصيل أكثر و سردتها.. لم أبد لا تعاطف ولا أي مشاعر لقصتها.. كنت مستمعة محايدة متفاعلة بصدق معها.. رغم صعوبة بعض التفاصيل.. كانت دائم ماتذكرني بأنها لم ولن تروي قصتها لأي أحد يعرفها.. كانت تفاصيل صعبة عاشتها صاحبة القصة.. فصول من الألم و الحرمان و التنازلات.. كانت تسترجع كل تفاصيل الألم مع كل كلمة ترويها.. انهت حديثها و أنا أرى دموعها اللتي تحاول أن تخفيها لكن بلا جدوى.. لم يكن بوسعي سوى أن أرتب على يديها التي كانت ترتعش مع كل تفاصيل حكايتها.. وكنت في حيرة ما اللذي ينبغي أن اقوله لها.. تمالكت نفسي لأن دموعي تكاد أن تسقط بعد سماعي لقصتها.. قلت لها حكايتك أنت بطلتها لكن لدي حكاية لا تساوي قصتك سوى فصل من فصولها.. قصة لن أرويها لك لكن سأرويها لغريب آخر سألتقيه يوماً ما.. سأرويها لشخص آخر في يوم أكون فيه على استعداد للحديث.. انتهى الحوار بوداع سريع.. ذهبت و أنا لا أعلم عنها الأشياء اللتي قد يعلمها عنها كل من هم حولها كاسمها وعمرها وعملها.. لكني عرفت عنها كل التفاصيل الصغيرة و عرفت قصة عميقة و تفاصيل مؤلمة لا يعرفونها.. قد تكون بحديثها معي فضفضت لشخص غريب وأعطاها شيء من الارتياح.. و أنا تمسكت بهذه الفرصة لكن لا أنكر أنتي اتذكر تفاصيلها بين الفينة والاخرى و أتألم لألمها.. اتمنى لو أن تعود لتقول لي بأنها أصبحت على مايرام.. قد أقول بأنها شعرت بشيء من الارتياح لكنها حملتني تفاصيل ألمها.
العلاقات الإنسانية مقدسة.. وجودك بحياة شخص سيترك أثره.. الانسحاب الغير مبرر يقتل الطرف الآخر.. التذبذب في العلاقات غير مقبول.. حدد موقعك مسبقاً و اتخذ قرارك ثم قرر إما أن تكون قريباً أو غريباً منذ البدايات لأن خط الرجعة ليس بالسهل..
رفقاً بالأرواح المرهقة.. رفقاً بالقلوب المستنزَفة.. فالأرواح إذا تشققت لا شيء يداويها ولا حتى الزمن..
كن حانيًا ومحفِّزًا ومشجعًا
إن الجميع بذي الحياةِ يقاسي
مجرد تأملات..👌