ماذا بعد؟!                   

درسنا.. نجحنا.. احتفلنا.. توظفنا.. تزوجنا.. انجبنا.. عشنا كل المراحل بتفاصيلها.. حققنا المطلوب منا اجتماعياً.. ثم ماذا؟ نسير في سلسلة من المراحل نتشابه فيها كثيراً.. فجميعنا كبرنا ونشأنا بأن هناك طريق مرسوم للجميع.. يجب أن نسير فيه.. أن ننجح.. أن نتجاوز.. ثم ماذا؟ هل يحق لنا آن نحيد عن الطريق؟ هل يحق لنا الاختلاف عن الآخرين؟ هل يحق لنا الاختلاف عن الأخوان والأخوات؟ عن أبناء العمومة؟ عن أبناء القبيلة؟ عن المجتمع؟ هل سُيرحب بالمختلف الخارج عن السياق؟ هل هو خيار مطروح اصلاً؟!

كان يعد جرماً لا جدال فيه.. أنت تسير مع الجميع.. الشذوذ عن المجموعة خرق للقوانين الاجتماعية والأعراف التي وضعت من المجتمع نفسه.. حتى لو كان شذوذ محموداً.. لماذا تفتح أبواباً مغلقة؟! لماذا تختلف عن الغير؟! لماذا تسبب ربكة غير مبررة؟! استمر في الطريق الأسلم.. كمل بنفس المسار.. تجاهل أي صوت داخلي يقول لك أن هناك مسارات فرعية تستطيع أن تسلكها.. 


تمر السنين والأيام.. ونتفاجأ بأننا نسخ مكررة من بعضنا.. مهما اختلفت الشهادات.. الدرجات العلمية.. مستوى الوعي.. التخصص.. جميعنا نعود لنفس النقطة ونعكس أفكاراً متشابهة.. أفكار تتعارض مع تخصصاتنا ومستوى وعينا و مكانتنا.. ليس لشئ سوى لإرضاء الجماعة.. هم من سيقيمك.. هم من سيصنفك.. هم من سيقبلك أو يرفضك اجتماعياً.. هم من سيقترب أو يبتعد عنك.. كلها أشياء لا تقال.. لا يقولها المجتمع.. لا يصرح بها.. لكنه يمارسها عنوة.. يضغط بها على الأفراد.. ولا يكاد يتسامح مع أحد ليكون عبرة لغيره..



تدور الأيام و السنين.. التغير بطئ والجميع صامت.. لا تُناقش هذه المواضيع ابداً ولا تطرح للجدال.. قد يتبادل البعض النـظرات تعبيراً عن امتعاض لكنه لا يتجاوز تلك النظرات العابرة..كان أقصى محظور يمارسه الجميع هو قنوات تلفزيونية قد تبث شيء لا يشبهنا.. قاومها الأغلب ولم يسمح لها.. فلم تترك بالغ الأثر.. ثم عصف بالمجتمع تغير جديد.. شبكة عنكبوتية تدخل كل بيت.. تجتاح كل خصوصية.. حاول المجتمع الاحتفاظ بها.. حاول البعض مقاومتها.. حاول البعض فرض القيود عليها.. المجتمع يراها تهديد لهويته.. كسر لقيوده.. خدش لكرامته.. ثم مالبثت أن أتت عاصفة وسائل التواصل الاجتماعي.. تغير سريع.. ثورة كبيرة.. لا قيود.. لاحدود.. العالم مفتوح.. البعيد أصبح قريب. المختلف عنا أصبح بيننا.. أصبح المختلف الذي كنا نهرب منه ونرفضه في بيوتنا.. في غرفنا.. مع ابنائنا.. سلطة المجتمع والأفراد بدأت بالتلاشي.. البعض قاوم.. البعض تردد.. البعض لم يجد خيار سوى الصمت والمشاهدة..


الأغلب دوافعه حسنة.. من المحافظة على المجتمع.. لصلاح الأفراد.. لحمياة الفضيلة.. ولكن ضمن إيطار أفكاره.. قيوده.. معتقادته.. مرجعيته الفكرية والأخلاقية.. لم يصمدون كثيراً فالتيار أقوى.. فهم يواجهون عالماً بأكمله.. بدأوا بالتنازل… تغيير قناعاتهم.. اظهروا الرغبة بالانفتاح على الآخر و تقبل التغيير والاستفادة من هذه النعمة العظيمة.. لكن في حقيقة الأمر مجبراً أخاك لا بطل.. التيار أقوى.. الأجيال لم تعد كما كانت.. لن يتراجع أحد عن التغيير مهما كانت المقاومة.. 


التغيير سريع.. الأفراد.. القرية.. القبيلة.. المدينة.. المجتمع.. جميعهم تغيروا.. انجذبوا للآخر المختلف.. عاشوا صدمت أنهم ليسوا الوحيدين في هذا العالم؟ أن هناك عالم آخر.. بشر آخرون.. عادات أخرى.. أفكار أخرى.. نافعة و فريدة و أصيلة.. لماذا لم يكن يسمح لنا الأطلاع عليها؟ لماذا لم يكن يسمح لنا الاقتراب منها؟ لماذا لم يكن يسمح لنا مناقشتها؟ لماذا لم يكن مسموح لنا حتى التأمل في الاختلاف بيننا وبينها؟


ضاع الفرد الجديد.. بين التمسك بالقديم وتقبل الجديد.. بين التغيير والمقاومة.. بين ماسمع وما رأى.. لماذا كل هذا؟ من وضعني في هذا الموقف؟ من المسؤول؟ لماذا لم يكن الاختيار لي؟ لماذا لم يكن قراري أنا في تقبل أو رفض الآخر؟ كيف استطيع أن أكون متوازناً الآن؟ كيف استطيع أن أقرر عن نفسي في حين كنت أنا من ينفذ فقط؟ 


توقعنا أن هذا أقصى انفتاح سنشهده.. وسيأخذ وقت طويل للتغير الفعلي.. ثم لم نلبث أن اتانا من اختصر علينا سنوات ضوئية.. من صنع التغيير.. قرارات رسمية.. تغيير جوهري.. انفتاح على العالم.. نزع اعتقادات وممارسات كانت مرفوضة ليس لشيئ سوى أننا وجدنا من قبلنا كذلك فاتبعناهم.. جأت رؤية ٢٠٣٠.. خطة واضحة.. قرارات سريعة.. تطبيق أسرع.. أنظمة تشريعية لا نقاش فيها.. اختصرت العديد من السنوات التي كنا سنقضيها ليحدث التغيير.. تغير المجتمع سريعاً.. تأقلم.. اكتشف أن مخاوفه جميعها لا وجود لها.. كُسِرت الرهبة من التغيير.. يكاد الشخص نفسه يستغرب من نفسه ذاتها.. لم يكن ماحولنا سوى تصورات جُبلنا عليها وتوارثناها..


البعض اجتاز سريعاً وتوازن محققاً التوازن المطلوب من المحافظة على الهوية إلى التغيير المحمود.. البعض مازال عالقاً.. خائفاً متردداً.. يخاف أن يخسر هويته اذا تقدم خطوة للأمام.. البعض كان سباقاً.. وكأنه يقول سأعوض كل شيء لم أكن استطيع فعله.. سأكون أنا.. سأتغير رغماً عن الجميع.. كل هؤلاء الأشخاص قد يقعون في الاختيار الخطأ ليس لشئ سوى لأننا في مرحلة انتقالية من مرحلة الحصار التام إلى الانفتاح التام.. أنت من يقرر.. أنت من يختار.. مادمت تحت مظلة القانون..


سيعود الجميع لتوازنه بعد سنوات بسيطة.. بعد خوض التجربة كاملة.. بعد أن نتوازن جميعنا من النقلة النوعية والسريعة وسيكون المجتمع في أحسن حالاته.. كل مرحلة جديدة لابد فيها من التجربة و تحديد موقعك من هذا العالم.. التغيير لا يعني للأسوء.. التغيير لايعني التنازل عن القيم.. التغيير لا يعني التنازل عن الهوية.. التغيير لا يعني التنازل عن الدين.. التغيير هو أن يكون العالم مفتوح أمامك وأنت لاتتأثر سلباً.. أن تكون محباً للحياة وتخوض التجارب ولا تحاكم الآخر.. أن ترى المختلف ولا تقصيه ولا تصنفه.. 


وفي الآخر نقول للكثير ممن حولنا لاتدعون تقبل الآخر ُفأنتم من قيد المجتمع لفترات طويلة.. تذكر أنك مجبراً لابطل..


مجرد تأملات..

                                     !هل تتفق؟ 

Join